تآكل الاهتمامات (1)

مضت سنة الله ـ تعالى ـ في خلقه أن يجعلهم في حال من التقلب المستمر بين أوضاع مختلفة، وفي ظل وضعية من الوضعيات ابتلاءات جديدة، عليهم أن ينجحوا فيها ، والنجاح يتطلب درجة حسنة من (يقظة الوعي) تجاه ما تحوّلوا عنه ، وما صاروا إليه حتى يعرفوا ما سماه بعض المتقدمين بـ(واجب الوقت).

وإن الذي يجعل قابلية الناس للارتجال من وضعية إلى وضعية شيئان :

1ـ ضعف وعيهم بميزات وسلبيات الحالة التي هم فيها، مما يجعل تخليهم عنها سهلاً.

2ـ الظروف والمعطيات والمنتجات الجديدة؛ فنحن نلاحظ أن السيارة والفضائية و(الإنترنت) ونشوء المدن الكبرى قد أدخلت على حياتنا اليومية وعلى علاقاتنا الاجتماعية الكثير والكثير من التغيرات، وقد جرت عادة الخيِّرين بالقيام بوعظ الناس وتنبيههم إلى مخاطر الوضعيات الجديدة التي وجدوا أنفسهم فيها، لكن تأثير ذلك دائماً محدود، وذلك يعود إلى أنه حين يحدث صراع بين منتجات حضارية ملموسة وبين أفكار وقيم وذوقيات لها اعتبارات وذات وجود معنوي، فإن الغلبة تكون للمنتجات الحضارية.

أنا في هذا المقال أود أن أبعث برسالة إلى قرائي الكرام حول أهمية الانتباه إلى بعض التحوّلات الكبرى التي طرأت، وتطرأ على حياتنا ، والعمل على إيجاد صيغ جديدة للتعامل معها.

بإمكاننا أن نقول : إن للشيء وجوداً بين وجود في الواقع ووجود في النفوس والعقول ، وحين يزول الشيء من نفوسنا واهتماماتنا فإنه يمضي نحو الزوال من الواقع ، وهكذا فقد اندثرت في حياة كل أمة من الأمم آلات وعادات وأنواع كثيرة من الأطعمة والأشربة وطرز الملابس…. بسبب انصراف اهتمام الناس عنها ، وحين نتساءل عن أسباب ذلك فسنجد أن لدينا مجموعة معقدة من الأسباب الموضوعية .

كما أننا سنجد أن كثيراً منها اختفى من غير أي معرفة بأسباب اختفائه ؛ فالإنسان كائن مزاجي بامتياز.لو عدنا أربعين سنة إلى الوراء لوجدنا أن صدور كتاب لكاتب لامع جداً كأبي الحسن الندوي أو أبي الأعلى المودودي ـ مثلاً كان يحدث هزة ثقافية كبيرة في أوساط الشباب المسلم، ومن الذي ينسى الحراك الثقافي الذي أحدثه كتاب مثل (قصة الإيمان) للشيخ نديم الجسر وكتاب: (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) للشيخ الندوي وكتاب (جاهلية القرن العشرين) للأستاذ محمد قطب ….؟

إنني أتصور أن جزءاً كبيراً من تأثير تلك الكتب مدين لمناسبتها لاهتمامات الناس في تلك المرحلة ، ومناسبتها لدرجة وعيهم وحاجاتهم الثقافية ، ولو أن هذه الكتب صدرت في العام الماضي لما لقيت عشر ما لقيته من حفاوة وقت صدوها في  القرن الماضي .

ولو أننا عدنا خمساً وعشرين سنة إلى الوراء لوجدنا أن الكتاب التراثي كان يستحوذ على اهتمام كثير من الناس، وكم رأيت من طلاب العلم من يقتني من الكتاب الواحد عدة نسخ ؛ فهذه نسخة حققها العالم الفلاني الدقيق جداً في عمله ، وهذه نسخة ذات ورق مصقول وخالية من الأخطاء الإملائية ، أما النسخة الثالثة فإنهم يقولون إن مخطوطتها التي اعتُمدت للنشر فقط بخط المؤلف.

أما اليوم فقد انحسر كل ذلك انحساراً شديداً، وبدأ الطلب يشتد على الكتب الإسلامية المعاصرة، وعلى كتب تنمية الشخصية، والتربية الإدارية، وكتب اللغة الإنجليزية، بالإضافة طبعاً إلى الروايات.

ولو أننا عدنا خمس عشرة سنة إلى الوراء لوجدنا أن الإقبال على الشريط الإسلامي كان لافتاً للنظر، وقد بيع  في بعض البلدان بضعة ملايين من النسخ ، أما اليوم فإن مؤسسات إنتاج الشريط الإسلامي تعمل بالحد الأدنى من طاقتها، وكثير منها أغلق أبوابه، وبعضها تحوّل إلى إنتاج ونشر الأناشيد الإسلامية وإلى قصائد الشعر الشعبي !

وما ذلك إلاّ لأن الحس العام للناس يتجه الآن نحو الاستمتاع والطرب، الشيء الأشد خطورة من هذا هو الإعراض عن الاهتمام بالعربية وتعليمها وتجويد نطقها وكتابها، والإقبال على اللغة الإنجليزية ، كتابة وتحدّثاً في مجال التعليم وفي مجال العمل ، وقد ذكرت إحدى هيئات الأمم المتحدة أن القرن العشرين شهد اندثار أكثر من ثلاثمئة لغة ، وأن القرن الحادي والعشرين سيشهد اندثار كثير من اللغات ، ومن بينها العربية ، وهذا شيء يثير الفزع !

إن الأشياء التي تموت في اهتمامات الناس اليوم كثيرة ، وهي تحتاج إلى رصد ومتابعة ، وإلاّ فإننا سنجد أنفسنا بعد سنوات وقد خسرنا الكثير من قيمنا ومكاسبنا الحضارية دون أن نحرك أي ساكن .

في المقال القادم بحول الله وطوله سأتحدث عن منهجية  التعامل مع الاهتمامات المتآكلة.

والله ولي التوفيق.