أمة مستنيرة (3)
تحدثتُ في الحلقة الماضية عن مشكلة إعراض كثير من الشباب المسلم عن القراءة، وقلت: إن هذا يشكِّل أزمةً كبرى؛ حيث إن العالمَ اتخذ من العلم والتقنية أساساً للنهضة الحديثة؛ وأعتقد أن علينا أن نبحثَ عن حلول لمعالجة تلك المشكلة الخطيرة، والحقيقة أن الذي كُتب في العثور عن حلٍّ ليس بالقليل، لكن نتائجه ضئيلةٌ ومحدودة! ومما يمكن أن يُقال على هذا الصعيد:
1 – مسألة تحفيز الناس على القراءة مسألةٌ كبرى ومعقَّدة، ولابد من أن تشتركَ الحكومات والشعوب في العمل عليها في إطار مشروع وطنيٍّ للقراءة.
نحن بحاجة إلى تشكيل لجان محلِّية مهمتها التفاوضُ مع الأثرياء الذين حباهم الله – تعالى – القصورَ والبيوت الواسعة من أجل وقف زوايا منها على المشروع وتجهيزها بالكتُب وتهيئتها للمطالعة وممارسة الأنشطة الثقافيَّة المختلفة.
كما أن من مهامِّ اللجان المحلِّية تنظيمَ المسابقات والبرامج التي تُتيح للنشء الانخراطَ في تعرُّف الكتب والاستفادة منها، كما أنها تحاول مساعدتَهم على إتقان أساليب القراءة المثمرة وأساليب قراءة الكتب الصعبة. وبما أن كثيراً من الشباب مرتبكون في أمورهم المعيشيَّة، فإن من الأهميَّة بمكان أن تسعى لجانُ الأحياء إلى توفير دعم لأعداد كبيرة من الكتب الممتازة بغيةَ بيعها للقرَّاء بأسعار مخفَّضة.
سنفعل الكثير مما ذكرتُ إذا اعتقدنا أن الأنشطةَ الثقافيَّة والمعرفيَّة تنتمي إلى القطاعات الهشَّة التي لا تنتعشُ من غير مساعدة مستمرَّة من الحكومات ومن أهل الخير وكلِّ أولئك الذين يغارون على أمَّتهم، ويسعَون إلى النهوض بأوضاعها. وأنا هنا لا أحلم، بل أعتقد جازماً أننا سنرى الكثيرَ من العطاءات الخيِّرة في هذا المجال وبأكثرَ مما نظن!.
2 – الإنتاج المعرفيُّ المتوافر اليوم هائلٌ وفي تزايد مستمر، وإن كثيراً من الشباب حائرون في اختيار الكتُب التي عليهم أن يقرؤوها، كما أنهم حائرون في التعامل مع الكتُب المشوبة بالأفكار المغلوطة والمنحرفة.وبعض الشباب لا يستطيعون تحديدَ الكتب التي يحسُن أن يقرؤوها أولاً، ثم ينتقلوا إلى ما بعدها في علم أو فنٍّ محدد… وأعتقد أن علينا أن نقومَ بجهود كبيرة على صعيد (تيسير المعرفة) وتسهيل التعامل معها، وذلك من خلال الآتي:
على الأقسام العلميَّة في الجامعات أن تقومَ بدورها في هذا الشأن من خلال تأليف كتب صغيرة ومتوسِّطة الحجم في التخصُّصات التي يتولَّى القسم العلميُّ رعايتها وتدريسها، وينبغي أن تتناولَ تلك المؤلَّفات المسائل الأساسيَّة في ذلك التخصص بعيداً عن الخلافات والتفريعات والحجج والبراهين، وينبغي أن تُكتب بأسلوب سهل وميسَّر وذلك حتى يتمكَّن أكبر عدد ممكن من الناس من قراءتها واستيعابها.
وهذا المشروع كبيرٌ جداً؛ حيث إننا نحتاج في التخصُّص الواحد إلى عشرات الرسائل والكتيِّبات؛ ولكم أن تتصوَّروا ما نحتاج إليه من ذلك في الطبِّ – على سبيل المثال – حيث إن لدينا عشراتِ الأمراض المتفشيةَ والتي يحتاج فيها الناس إلى المعرفة الطبيَّة التي تمكِّنهم من التعامل معها، كما أننا في حاجة إلى عشرات الرسائل التي تُعلم الناس المحافظةَ على الصحة والوقايةَ من الأمراض.
ومثل هذا المشروع العملاق لا يمكن أن يُنجَز إذا ما تُرك لمبادرات أساتذة الجامعات والمعاهد العليا والمتخصِّصين عامَّة، وشواهدُ الماضي تؤكِّد هذا، بل لابد إلى جانب المبادرة الشخصيَّة من تبنِّي الجامعات ووزارات التربية والتعليم العالي والثقافة لذلك، فالمسألةُ لا تتعلَّق بزيادة المعرفة لدى الناس، ولكن بنشر (الثقافة العلميَّة) والتأسيس للنظرة العقلانية للحياة والأحياء.
والناس في حاجة أيضاً إلى الرسائل والكتيِّبات الميسَّرة ذات الطابع العملي، أي التي تُساعدهم على قضاء حاجاتهم والتعامل مع الأجهزة والأدوات التي بين أيديهم، كما تُساعدهم كذلك على كسب رزقهم، وهذه الرسائل لا تقلُّ أهميَّتُها عن السابقة بسبب مساعدتها على القضاء على البَطالة ومساعدتها الناس في الاعتماد على أنفسهم في إنجاز بعض أعمالهم، وإليك بعضَ الأمثلة على ذلك:- رسائل تعلِّم الناس طرائقَ زراعة المساحات الصغيرة في أفنية منازلهم.- رسائل تشرح للناس طرائقَ صيانة منازلهم وإصلاح الأعطال الصغيرة التي تُصاب بها بعض الأجهزة المنزليَّة.- تعليم النساء في البيوت بعض الأعمال اليدويَّة التي تؤمِّن دخلاً إضافياً للأسرة.- رسائل تساعد الناس على تدبير شؤونهم الماليَّة، كما تعلِّمهم طريقةَ إدارة الموارد المحدودة.- تعليم الأزواج والزوجات الأساليبَ التي تحسِّن مستوى الوفاق والتفاهم بينهم، كما تساعدهم على الاهتداء إلى الأساليب الناجحة في تربية أبنائهم.
3 – إن التقدُّم التقني أتاح للعالم وسائلَ جديدة للتثقيف والتنوير، لا تقلُّ في أهميتها اليوم عن الكتاب، فـ(الإنترنت) و(البث الفضائي) على سبيل المثال وسيلتان عظيمتان جداً في نشر المعرفة وترسيخها، ونحن في حاجة ماسَّة اليوم إلى زيادة المواقع والقنوات الفضائيَّة المتخصِّصة؛ مواقع وقنوات تتحدَّث عن الدعوة والإصلاح والفكر والتربية وفعل الخير والعمل الإغاثي، كما تتحدَّث عن الإبداع والتصنيع والعلاقات الدوليَّة والتخطيط الإستراتيجي…
إنني أحلُم أن يجد الواحدُ منا في المستقبل القريب مواقعَ إلكترونيَّة متخصِّصة تخصُّصاً دقيقاً، حتى يجد الواحد منا كلَّ المعلومات والمعطيات والخبرات التي يحتاج إليها في أيِّ موضوع من الموضوعات أو مجال من المجالات… والقيام بهذا ممكنٌ وسهل بسبب رخص التكاليف ويُسر المتطلَّبات، لكن هذا لن يكونَ إذا لم يساهم كلُّ عالم وكلُّ خبير ومتخصِّص في ذلك على نحوٍ جادٍّ وفعَّال.
آمُل من إخواني المتخصِّصين ومن نفسي أن نتساءل: إذا كان المسلمون يعانون الجهلَ وضحالة المعرفة، فهل وجود الواحد منا في التعليم وفي المؤسَّسات الثقافية والتربوية هو جُزء من المشكلة أو جزء من الحلِّ؟.والله ولي التوفيق