بداية تقدّم
انتهى رمضان (كل عام وأنتم بخير)، وصار جزءًا من الماضي، ونحن نشعر جميعًا أن هذا الشهر المبارك كان يشكل احتفالية روحية ضخمة شارك فيها المسلمون: صغارهم وكبارهم في سائر أنحاء المعمورة.
إننا لا نعرف عبادة من العبادات تستحوذ على اهتمام المسلمين على النحو الذي نجده في عبادة الصيام. لقد تعود المسلمون التعامل مع شهر رمضان على أنه شهر استثنائي، وهذا يعود في الأساس إلى ما لمسه الصحابة –رضوان الله عليهم- من إقبال نبيهم –عليه الصلاة والسلام- على العبادة في كل رمضان، ولاسيما العشر الأواخر منه، فقد كان يعتكف في المسجد، ويعتزل نساءه، ويشد مئزره إيذانًا بالانصراف الكلي إلى مناجاة الله –تعالى- والتقرب إليه.
ولدى كثير من المسلمين اليوم شعور بأن رمضان مناسبة مهمة لتخصص حركة المساعي الدنيوية في سبيل توفير المزيد من الوقت للإقبال على الله –سبحانه-؛ ومن ثم فإن كثيرًا من الأعمال يُؤخر إلى ما بعد رمضان، ولهذا دلائله الإيجابية الكثيرة!
إن المتتبع لحملة الآداب والسنن والمشروعات في شهر رمضان المبارك –يجد أنها مجتمعة توجد بيئة روحية فريدة، ففي هذا الشهر المبارك يرتاد المسلمون المساجد بكثرة، وتشهد صلاة الفجر حضوراً لافتاً مع أنها في غير رمضان شبه مهملة من معظم المسلمين. ونجد إقبال المسلمين على قراءة القرآن حتى إن بعضهم ليختم في هذا الشهر خمس ختمات أو ستًا. وتنبسط الأكف بالصدقة والعطاء، وتكثر الموائد التي يجتمع عليها الفقراء.. وهذا كله يجعل الوضعية الوجدانية والروحية لدى معظم المسلمين في حالة ممتازة.
لا أريد أن أسترسل في الحديث عن فضائل رمضان وبركاته، ولكن أود أن أقول: لماذا يعود السواد الأعظم من المسلمين بعد رمضان إلى ما كانوا عليه قبله من تقصير في أداء الفرائض وهجر للمساجد وغوص في الشأن الدنيوي..؟!
هل يحدث هذا لأن المسلمين ينظرون إلى رمضان على أنه (موسم)، ودائمًا تكون المواسم طارئة وغير عادية، ويكون ما بعدها مثل ما قبلها؟
أو أن هذا يحدث لأن تأثير رمضان في نفوس المسلمين لم يكن جذريًا إلى درجة إغرائهم بالتمسك بالمسرات الروحية التي خبروها في رمضان والعمل على استمرارها؟
هل يكون السبب هو كثرة المشاغل الدنيوية التي تجذب الناس بعيدًا عن الاهتمام بالمعنى والمشاعر والرفاه الروحي؟
أعتقد أن سبب ذلك هو خليط من كل هذا، وهناك أسباب أخرى ربما تعود إلى طبيعة النفس البشرية وميلها إلى الملل، والتنصل من المسؤوليات.
إننا ونحن مهمومون بشجون الإصلاح، وغارقون في شؤون التنظير العقلي، نسينا شيئًا جوهريًا هو أن المكمن الحقيقي لذات الإنسان هو روحه وليس عقله. ونسينا كذلك أن علاقتنا الشفيفة بالله –جل وعلا- هي مصدر السعادة الحقيقية في هذه الدنيا، وهي مصدر الوقود الحيوي الذي نحتاجه من أجل الاستمرار في العطاء ومن أجل مقاومة الضغوط الهائلة التي تتوارد علينا من كل اتجاه.
إن حب الله –تعالى- ورجاءه وخوفه واستحضار عظمته وفضله علينا ولطفه بنا.. هي المحصلة النهائية لكل قربة من القرب، وكل عبادة من العبادات. وإن المطلوب أن تشكّل هذه المعاني الصبغة العامة لكل هواجسنا، وأن تصوغ سلوكاتنا وقبل ذلك أمانينا وتطلعاتنا. إن علينا أن نقوم بحركة توعويّة كبرى تستهدف تعليم الناس الطريقة التي تمكّنهم من جعل رمضان نقطة لبداية تغيير على الصعيد الشخصي.
لعل مما يرمز إلى هذا ما سنّه النبي –صلى الله عليه وسلم- من إتْباع صيام رمضان بصيام ستة أيام من شوال؛ إذ المحاولة الواضحة للتشبث بالصيام ونقل بعض قرب رمضان إلى شوال.
في رمضان تعوّد الناس الاستيقاظ قبل الفجر من أجل السحور، ومن المهم أن يحاولوا الاستيقاظ مدى الحياة في وقت السحر، ولو مرة واحدة في الأسبوع. وفي رمضان ذاق الناس معنى التلاوة اليومية لكتاب لله –تعالى- ومن المهم أن يرتّب كل واحد منهم على نفسه وردًا أو حزباً يوميًا من التلاوة حتى يظل على صلة بكلام الله. وفي رمضان تعوّد الناس البذل، وسيكون من الحيويّ أن يوطّنوا أنفسهم على مساعدة غيرهم على نحو يومي ولو بشيء زهيد.
سنعرف قدر رمضان، وسنقوم بحق عبادة الصيام حين نحاول استصحاب ظلال الصيام وإيحاءاته وإشراقاته لتكون جزءًا من السلوك العام والأجواء العامة لأمة الإسلام. بالتثقيف والحوار والقدوة وزيادة الوعي قد نستطيع الوصول إلى كثير مما نريد في هذا الشأن.
والله ولي التوفيق.