أمير الركب
من الأقوال المأثورة عن العرب (الضعيف أمير الركب) ومنها كذلك: (سيروا بسير أضعفكم)، ومعناهما واحد، إلاّ أن الأول أبلغ؛ إذ يشير إلى أن الناس حين يكونون في سفر، فإن عليهم أن يسيروا بسير صاحب الدابة الضعيفة، وكأنهم يأتمرون بأمره، وذلك من أجل الحفاظ على وحدة الركب وتضامن المسافرين، وهذا القول الموجَز البليغ يصلح لأن يكون نبراساً ومرشداً في ترتيب أوضاعنا الاقتصادية، ولاسيما في هذه الأيام التي نجد فيها سباقات يومية محمومة لتسجيل أرقام قياسية في الكثيرالكثير من مظاهر الحياة، وإن هناك من بذلوا الكثير من الأموال، كما أن هناك من خاطروا بأنفسهم من أجل الدخول في موسوعة (جينيتس) للأرقام القياسية!
إن العولمة هي حركة استثمار الأقوياء في الضعفاء، وبما أننا نعيش في عصر العولمة، فإن كل الأنظار مشدودة إلى ما يفعله الأقوياء، وإلى ما يؤسس للقوة والجبروت والتسلط؛ فقد أصبح القوي هو أمير الركب، وصار على الضعيف أن يتخلص من ضعفه، أو يتحمل قدراً هائلاً من المعاناة.
ولعلي أقدم في هذه القضية الملاحظات الآتية:
1ـ إن الله ـ تعالى ـ أرسل الرسل، وأنزل الكتب لهداية الخلق، وإشاعة معنيين مهمين، هما الرحمة والعدل، ولهذا فإنه يمكن للمنجزات الحضارية أن تستمر طويلاً إذا قامت على هذين المعنيين العظيمين، وإن حلول القوة في موضع الرحمة، والظلم في موضع العدل من أشد ما يعجِّل بحصول التدهور، والدخول في نفق الانحطاط.
2ـ حين نركِّز على إبراز ثروات (المليارديرات) والأبراج الشاهقة والمصانع العملاقة، فإننا نولِّد مشاعر ومفاهيم زائفة حول التقدم والتحضر، مع أنني أسلِّم بأن لهذه الأشياء دلالاتها الخاصة المعبرة عن التحرك العمراني والصناعي، لكن الدفع بالإنجازات الكبرى إلى سطح الوعي يخفي تحته شيئاً سيئاً للغاية، هو إسدال الستار على الكثير من أشكال البؤس الإنساني؛ بسبب فقد العدالة، وتكافؤ الفرص، واختلال خطط التنمية، وتدهور التعليم…
ومن هنا فإن المقياس الحقيقي للتحضر والتمدن هو ما نحرزه من نجاح على صعيد تحجيم مؤشرات الضعف في الأمة، وهي كثيرة، من أهمها:
الجهل، والفقر، والمرض، والظلم والاستبداد، والإحباط، والانحراف السلوكي، والانكفاء على الذات.. إن علينا ألاّ نتحدث عن أعداد العاملين في المصانع، وإنما عن التقدم في تقليل الباطلين عن العمل، وألاّ نتحدث عن أعداد الذين حصلوا على جائزة نوبل، وإنما عما تمّ إنجازه على صعيد محو الأمية، وألاّ نتحدث عن عدد الأبراج في مدننا الكبرى، وإنما عن عدد الذين نقلناهم من (مدن الصفيح) لينعموا بحياة كريمة ومطمئنة..
حين نفعل هذا فإن الضعيف يكون فعلاً هو أميرَ الركب.
3ـ من الأمور البالغة السوء أن يكون (20%) من المجتمع قادرين على شراء كل شيء، وأن يكون (70% ) منه غير قادرين على الحصول على الضروريات! إن هذه الوضعية تُشيع العديد من ألوان الفساد في حياتنا الاجتماعية؛ إذ يصبح من المألوف أن ينحرف كثير من الناس بسبب الترف، وينحرف كثيرون آخرون بسبب الفقر والحاجة!
ومع أن من المهم الإبقاء على حرية الكسب، وعلى أن يقطف المرء ثمار جهده، إلاّ أن من المهم جداً أن يكون لدينا نظم صارمة وواضحة تساعد على تقليل الفوارق الطبقية، وإن غياب تلك النظم أدّى إلى أن نجد في المدينة الواحدة مَن دخلُه ثلاثون ألف دولار، ومن دخلُه ثلاثمائة دولار، فكيف يمكن لأولئك وهؤلاء أن يشكِّلوا معاً مجتمعاً متلاحماً متراحماً، يحصل على فرص واحدة، ويسعى إلى تحقيق أهداف موحدة؟ إن اليابان تقدِّم نموذجاً في هذا الشأن؛ إذ إن الفارق بين مرتَّبات المدراء والعاملين في الشركة الواحدة هو في حدود تسعة أضعاف، أي أقل من (10%) من الفوارق الموجودة في كثير من شركاتنا ومؤسساتنا!
أعتقد أن إصلاح هذا الخلل وإنعاش أوضاع الفئات الأشد بؤساً يتطلب عدداً من الإجراءات الصارمة:
أ ـ تحديد حدٍ أدنى للأجور حتى لا يستغلَّ الغنيُّ الفقير.
ب ـ تحديد حدٍ أعلى لرواتب كبار الموظفين وتحديد حجم المكافآت التي تمنحهم إياها مؤسساتهم وشركاتهم.
ج ـ التشديد على أهمية إفصاح كبار الموظفين عن حجم ثرواتهم عند التعيين، وإلزام كل من يريد شراء منزل أو سيارة أو أي شيء آخر قيِّم بالإفصاح عن مصادر المال الذي يريد دفعه لذلك.
د ـ تنشيط العمل التطوعي والخيري من أجل مساعدة العناصر التي تعيش في ظروف صعبة وقاهرة؛ فالعمل الخيري يشكِّل دائماً استدراكاً على قصور النُّظُم، كما يشكل كرَّة أخرى على طريق العدالة الاجتماعية.
إن جعل الضعيف أميراً للركب قادر على تغيير حياتنا المدنية، وإضفاء مسحة جديدة على علاقاتنا الاجتماعية، وعلى رؤيتنا لمفهوم التضامن الوطني.