بناء المحيط الذهبي
تنبع أهمية بناء المحيط الذهبي من مجموع رؤيتنا لحاجات الإنسان ورغباته وطموحاته وقدرته على التحمل ، فنحن في الحقيقة مخلوقات ضعيفة وتابعة ، وإن تحديد الوسط الأكثر ملاءمة لحياة مطمئنة ومثمرة يقع في طليعة اهتمامات المصلحين لعلمهم أن وعظ الناس بالصلاح والجدية وتحسين الإنتاجية يظل قاصر التأثير ما لم تكن هناك معطيات موضوعية تساعد الناس على تنفيذ ما نطلبه منهم ، وأعتقد أن الخطط التنموية الجيدة تستبطن الوعي بمتطلبات المحيط الذهبي ، وتسعى إليه .
كيف نبني المحيط الذهبي ؟
1- من المهم دائماً ونحن ندعو الناس إلى القيام بعمل من الأعمال و الالتزام بخلق من الأخلاق أن ندلهم على الوسائل التي تمكِّنهم من ذلك ، وهذه قضية في غاية الأهمية ، لأن لدينا الكثير من الإمكانات والفرص لكن كثيراً من الناس ، ولاسيما الشباب لا يعرفون شيئاً عنها ، وهذا يتطلب من المثقفين وصناع الخطاب أن يكونوا عمليين أكثر مما هم عليه اليوم .
2- استهداف تكوين طبقة وسطى ، قوية وعريضة ، وأفراد الطبقة الوسطى هم الذين تجاوزوا مرحلة الفقر ، ولم يبلغوا الطبقة العليا من أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة ، وغالب أفراد هذه الطبقة يكونون من أصحاب المهن العلمية مثل الأطباء والمهندسين والمحامين وكبار الموظفين … على مدار التاريخ كانت هذه الطبقة هي التي تمنح المجتمع سماته العامة ، وهي التي تخرِّج المبدعين والقادة والمؤثرين في مسيرة الحضارة. المطلوب هو أن تشكل الطبقة الوسطى (80%) من المجتمع وذلك حتى تشكل صلة وصل قوية وفاعلة بين الطبقة الدنيا والطبقة العليا وحتى تقوم بدورها في استقرار المجتمع و اعتداله ، وإن توسيع مساحة هذه الطبقة يتطلب العديد من الأمور ، منها:
– مكافحة كل أشكال الفساد المالي والإداري من غير هوادة ، وذلك لأن انتشار الفساد المالي يزيد الضعفاء ضعفاً ، ويمنح الأقوياء والأثرياء فرصاً إضافية لمزيد من الثراء ، وهذا يؤدي بالطبع إلى تقلص الطبقة الوسطى ، ويؤسفني القول : إن معظم دول العالم الإسلامي تقدِّم نموذجاً واضحاً لضعف الطبقة الوسطى ، ويلعب الفساد دوراً مهماً في ذلك .
– الاهتمام بالتعليم المجاني ، وذلك لأن التعليم الممتاز يشكل أوسع مسار للحراك الطبقي ، والواقع يشهد بهذا حيث نرى أن كثيراً من أبناء الطبقة الوسطى ينتمون في الأساس إلى أسر فقيرة, وقد تحسنت أوضاعهم بسبب الشهادات التي نالوها, والعلم الذي حصّلوه, ومن المؤسف أن التعليم الحكومي- وهو غالباً مجاني- يشهد موجة من التراجع والانحطاط, مما يجعل المستقبل أمام أبناء الفقراء غير واضح. أما الأثرياء فإنهم يجدون دائماً مخرجاً, وقد وجدوه في المدارس الأهلية التي تقدم تعليماً جيداً, وتتقاضى من الطلاب في مقابله مبالغ طائلة.
وإني لأرجو من كل المؤسسات الخيرية أن تخصص 5 % على الأقل من الأموال التي في حوزتها لتعليم أبناء الفقراء وابتعاثهم إلى جامعات جيدة.
– تستطيع الحكومات من خلال ميزانياتها ومن خلال الضرائب والكثير من الإجراءات أن تدعم الطبقة الوسطى, ومن أهم ما يمكن أن تقوم به تقليص الفوارق في الأجور, إذ إن من المفروض ألا يزيد مرتب المدير العام عن عشرة أضعاف أصغر موظف لديه, وهذه الوضعية موجودة في بعض الدول التي تتمتع باستقرار وتماسك اجتماعي كبير كاليابان – مثلا- أما في الدول العربية فإن الفارق قد يصل إلى مئة مرة, وهذا شيء مخيف, ونحن نؤمن بأهمية الحافز المادي في الإبداع, والتقدم, ولكن علينا أن لا ننسى الجانب الإنساني, فالموظف الصغير لديه أسرة, وعليه مسؤوليات, لا تختلف كثيراً عما على الموظف الكبير, وربما أكثر لأن المتعلمين والمرفهين لا ينجبون – في العادة- الكثير من الأولاد. وتستطيع الحكومة دعم الطبقة الوسطى عن طريق الضرائب التصاعدية, وإن كان وجود الضرائب يدفع نحو الاحتيال, ويسبب العديد من المشكلات, لكن قد لا تجد الدولة أي بديل عنه في مساعيها لتوفير خدمات جيدة لأحياء الفقراء وذوي الدخل المحدود, ومما يمكن أن تفعله الحكومات أيضاً إنشاء بنوك حكومية وشعبية لتوفير قروض خيرية لأصحاب المشروعات الصغيرة وللشباب الذين يريدون إكمال تعليمهم, وقد قامت ( الهند) في مرحلة من المراحل بسن قوانين تقضي بقصر التعاقد في كثير من المشروعات على المؤسسات الصغيرة بوصف ذلك جزءاً من إعادة التوازن الإقتصادي إلى المجتمع. ولا بد مع هذا من تخصيص ميزانية لدفع مرتبات شهرية للباطلين عن العمل حتى نحمي أسرهم من التصدع, ونحميهم من الانحراف السلوكي…
للحديث صلة
د. عبد الكريم بكار
في 17\10\1431