بناء المحيط الذهبي 2
تحدثت في المقال السابق عن أهمية الطبقة الوسطى، وعن مكافحة الفساد، وتوفير التعليم الجيد، وأمور أخرى… في بناء المحيط الذهبي، وسأتحدث اليوم عمّا أعتقد أنه يساعد على تكميل الصورة المتخيلة للمحيط الذهبي، وذلك عبر الآتي:
1 ـ الثقة والتفاؤل:
حين يكون المحيط سيّئاً أو (حديدياً)، فإن الناس يشعرون بالكثير من التشاؤم واليأس؛ لأن المعطيات السائدة توحي إليهم بذلك، ومع أنني أعتقد أن النجاح والتقدم والشعور بالتغيير نحو الأفضل هي المبعث الأساسي للشعور بالتفاؤل، إلاّ أن من المهم جداً أن يدرك الناس أن لديهم إمكانات هائلة مذخورة في عقولهم ونفوسهم للشعور بالسعادة والتفوّق، وقد ثبت -بما لا يدع مجالاً للشك- أن وفرة المعطيات المادية لا تكفي لتحقيق الطمأنينة والنجاح، كما ثبت كذلك أن قلة الإمكانات المادية لا تشكل بمفردها سدّاً منيعاً دون الشعور بالسعادة أو تحقيق النجاحات الباهرة؛ إذ يمكننا من خلال الصلة الحسنة بالله ـ تعالى ـ ومن خلال الإرادة الصلبة واكتساب مهارات جديدة إلى جانب الإيثار والتعاطف والتراحم.. أن نحيا حياة جديدة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وإن من مهمات الدعاة والمثقفين إشاعة ثقافة الهناء بالقليل من الإمكانات.
2- العمل الجاد:
حين تزور بلداً متخلفاً ترى كثيراً من الشباب متجمهرين في الساحات أو أمام المنازل، وهم يشكون من الفقر وتراكم الديون، وتلفّهم الحيرة والارتباك مع أنه ما من بلد -مهما كانت درجة تخلّفه- يتيح لمن يحب أن يعمل فرصة ولو صغيرة ليقوم بشيء ما، وإن كثيراً من أثرياء العالم عملوا في بداية حياتهم بأعمال تافهة جداً.
المشكل أن الأسر والمدارس معاً مقصرة في بث ثقافة العمل في نفوس الصغار، مع أنه لا يكاد يُذكر الإيمان في الكتاب العزيز إلاّّ مقروناً بالعمل. بالعمل المتتابع نُدخل تحسينات مستمرة على أوضاعنا وبيئاتنا، ونكتشف أنفسنا وإمكاناتنا، كما نكتشف ممانعة الواقع وصعوبات التنفيذ، ولن يغني عن العمل أي شيء آخر.
3- التطوع:
لا يكون المحيط ذهبياً إذا لم تكن هناك شريحة لا تقلّ عن 3% تهتم بالشأن العام، وتملك القدرة على التضحية بشيء من جهدها ووقتها من أجل الارتقاء به. الذي يظهر دائماً أن هذه الشريحة تعطي وتبذل، وتخسر، لكن الحقيقة أنها تأخذ أكثر مما تعطي، إن المحتسبين من تلك الشريحة ينالون من عظيم ثواب الله ما لا يقارَن مع ما قدّموه، وغير المحتسبين يشعرون برفاهية الروح وأناقة الداخل، ولا يقتصر التطوع على الإحسان إلى الآخرين، بل كل عمل نتجاوز فيه حدود الواجب يشكل مورداً للشعور بامتلاء الداخل، فقيام الليل والصدقة وبشاشة الوجه والدعاء للإخوان في ظهر الغيب والمبادرة بالسلام… كل هذه الأمور الجميلة تحسّن مزاج الإنسان، وتشعره بنوع من التفوّق. والحقيقة أن الإقبال الهائل الذي نشاهده اليوم على الاستهلاك والمباهاة بالمظاهر هو صدى حقيقي للفقر الروحي وخواء النفوس، وليس هناك شيء كالعمل التطوعي يستعيد أمجاد الذات وأصالة الشخصية، وهذا وحده هو الذي يخفف الطلب على المال، و المضي في سلوك السبل المظلمة من أجل الحصول على المزيد منه.
4ـ بيئة جميلة
أوجدنا الله ـ تعالى ـ على هذه الأرض ووجّهنا إلى العمل على بقائها صالحة للعيش لأجيال كثيرة قادمة، ونحن جميعاً مطالبون بالمساهمة في ذلك، وحين نستجيب لما طلب منا فإننا نكون قد تعاملنا مع الأرض كما يتعامل عالم كبير مع مكتبته الخاصة، إنه ينتفع بها، ويثريها بالجديد باستمرار، وحين يرحل عنها يتركها وهي أشد ما تكون اكتمالاً، لكن الذي يجري الآن مغاير لهذا تماماً، حيث يتم تفريغ باطن الأرض من كنوزها، وخيراتها وباستخدام تلك الكنوز يتم القضاء على التنوّ ع البيئي وتلويث الماء والتراب والهواء!
البيئة الجميلة هي بيئة نظيفة وخضراء ومنظمة وهادئة، وقد صحّ عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: (ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلاّ كان له به صدقة). وهذه الصدقة قد تستمر مئات السنين، وحثَّنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أن نستمر في عمل ما ينفع الأرض والناس إلى آخر لحظة من عمر الحياة الدنيا حيث قال: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها، فليغرسها).
المكان الجميل يوحي بالمشاعر الجميلة، ويزيد درجة التعاطف بين الناس، والمكان الفوضوي وغير النظيف يثير مشاعر الملل والسأم، نحن نهندس منازلنا، ثم تهندسنا منازلنا.
بناء المحيط الذهبي يحتاج أول ما يحتاج إلى الثقة بأن كل واحد منا قادر على تحسين محيطه، وجعله أفضل مما هو عليه الآن.