الشارع الرئيس
للحضارات هويات ومعالم تشبه هويات ومعالم المدن؛ فأنت حين تريد دلالة شخص على منزل في مدينة كبرى لا عهد له بها، ولم يدخلها من قبل، فإنك تعمد إلى دلالته على معلم كبير أو شارع رئيس موجود في تلك المدينة، وتتدرج به في الدلالة حتى يدرك موقع المنزل الذي يبحث عنه.
ماذا لو كنت غير عارف بأي معلم من معالم تلك المدينة، وغير عارف بالشوارع والطرق الكبرى التي تخترقها، وتصل بين أحيائها؟ إنك ستجد الكثير من العنت في مهمتك، وقد لا تصل في النهاية إلى أي شيء…
هكذا الأمم وهي تبحث عن هوياتها وعن السمات الأساسية لبنياتها الحضارية. على مدار التاريخ كان هناك طريقان للتعرف على الذات والمهمات والأهداف الكبرى: طريق الوحي، وطريق البحث والدرس والتفكر، و حين وقع الصدام في أوروبا بين الكنيسة من جهة وبين العلماء والباحثين من كل التخصصات من جهة أخرى صار الفلاسفة وصنّاع الرأي يحاولون اكتشاف هوية الحضارة عن طريق البحث واستخدام الخبرة التاريخية وعن طريق فهم طبائع الأشياء والقوانين والسنن التي تحكمها، وصار دور الدين هامشياً إلى حد بعيد، لكن المشكلة التي واجهتهم هي أن العقل في بنيته العميقة غير مؤهل لاكتشاف الشارع الرئيس وتحديد الأطر العامة، وبناء المرجعيات المتعالية على الاجتهاد والاختلاف، ولهذا فإن قادة الفكر والرأي لديهم يشبهون فعلاً سائق (التاكسي) الذي يعرف تفاصيل الأزقة والحارات في المنطقة التي يعمل فيها، لكنه لا يعرف الطريق الذي يوصل إلى مطار المدينة، ولا الشوارع التي تعبر المدينة غرباً وشرقاً و شمالاً وجنوباً.
إن ذلك السائق يستطيع كسب رزقه من خلال العمل داخل المنطقة التي يعرف تفاصيلها، لكنَّ الفلاسفة والمنظِّرين لا يستطيعون تأمين الحاجات الروحية والعقلية للناس عن طريق شرح مواصفات الغذاء الصحي وشرح مواصفات السلوك الإنساني الذي يراعي شروط المحافظة على البيئة وتعليم مهارة صنع طائرة حديثة… ومن هنا فإني أشعر وأنا أقرأ لكثيرٍ من الكتّاب الغربيين أنهم يتحركون حركة واسعة جداً لكن ضمن كهف مظلم، وأحياناً أشعر أنهم يشبهون في محاولاتهم العثورَ على طريق مفتوح العصفورَ الذي وجد نفسه في قفص كبير، وذلك لأن الإنسان يملك أشواقاً عارمة لمعرفة المصير الذي ينتظره بعد الموت، والعقل البشري غير مؤهَّل للوصول إلى معرفة ذلك المصير من غير إرشاد خارجي.
هذا كله لا يعنينا كثيراً لولا أننا بتنا نلمس بقوة طروحات كثيرة تمضي حول الرؤية الغربية في التنظير للحق والواجب والسعادة والشقاء…، وهذا أدّى إلى إرباك وعي كثير من الناس تجاه تحديد المطالب الأساسية للنهضة والتقدم، ولا أريد الاستفاضة في هذا الموضوع، لكن أودّ أن أوضح بعضاً من أهم ملامح هويتنا الحضارية، على أمل الحفاظ على القواسم المشتركة التي تصوننا من تمزق النظر إلى الذات وإلى المستقبل، وأنا أزعم أن من أهم تلك الملامح الأمور الثلاثة الآتية:
1- قطعيات هي من قبيل المعلوم من الدين بالضرورة، أي يستوي في معرفة كلياتها الخاصة والعامة، وذلك مثل الإيمان بالله – تعالى- وكتبه ورسله واليوم الآخر، ومثل أركان الإسلام الخمسة، ومثل كبائر المعاصي كقتل النفس والزنا وشرب الخمر والسرقة وأكل الربا… إن هذه القطعيات تشكل بالنسبة إلى المسلم أطراً واضحة للتصور والتفكير والبحث وإصدار الأحكام… وإن عدم الاعتراف بها أو بشيء منها، يزيد كثيراً في أضراره على أضرار جهالة سائق سيارة أجرة بالشوارع الرئيسية في المدينة التي يعمل فيها.
2- أولوية البناء العقلي والروحي والخلقي على البناء العمراني، أي إن تثقيف العقول وتزكية النفوس وترسيخ المبادئ والأخلاق الفاضلة أهم من بناء الجسور وإقامة الحدائق وشق الطرق السريعة… وهذا يعود إلى أن التقدم الحقيقي في الرؤية الحضارية لدينا هو تقدم روحي خلقي بامتياز، وهو التقدم الذي كان يشكِّل الهاجس الأكبر لجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ـ والآيات القرآنية والأحاديث النبوية تؤكد على هذا الملمح بطريقة لا تقبل الجدل؛ إذ إن أكثر من 99% من الآيات القرآنية يتحدث عن التقدم العقلي والروحي والسلوكي لبني الإنسان.
3- كل المكتسبات الحضارية وكل الإنجازات العمرانية، وكل المكتشفات على كل الأصعدة لا تشكل في رؤيتنا الحضارية أكثر من وسائل، مطلوب منا استخدامها للوصول إلى الهدف الأسمى في هذه الحياة الفانية، وهو القيام بأمر الله ـ تعالى ـ على أفضل وجه ممكن، والفوز برضوانه، وهذا الملمح في غاية الأهمية؛ لأنه يعصمنا من الغرق في التفاصيل والضياع في متاهات الحقوق والمصالح المتضاربة ومتاهات ضوابط استخدام القوة وتوظيف الإمكانات المتاحة..
ليس المهمُّ عند أخذ ما أشرت إليه بعين الاعتبار سهولةَ الطريق الذي نسلكه، كما أنه ليس من المهم السرعة التي نمضي بها، إنما المهم هو النقطة التي يوصلنا إليها ذلك الطريق، لأن ضياع الهدف الأكبر يعني أن يصبح كثير من أشكال العناء الإنساني وكثير من إنجازات البشر أشياء من غير أي معنى، وهذا يعادل فقْد الوجود ذاته.