صورتان متقابلتان
نستطيع القول : إن لكل شيء من الأشياء وجودين : الأول : وجود ذاتي، طابعه العام الاستقلال ، والثاني : وجود ( علائقي ) طابعه العام الافتقار والاتصال ، ونحن في العادة لا نهتم بالوجود الثاني ، ولا نبحث فيه لأن تركيزنا كثيراً ما يكون على الوجود الذاتي ، مع أن الذي ثبت أن ما حولنا يؤثر فينا على نحو طاغ إلى درجة يصح معها القول : إن الشيء هبة علاقاته . ولا أريد الآن شرح هذه المسألة ، وإنما أود الإشارة إلى شيء مهم هو تفاوت الناس في نظرتهم إلى الأشياء والمعطيات المحيطة بهم ، وهذا التفاوت نابع من ارتباك الوعي في التعامل مع كل ما يتصل بعالم العلاقات ، فإحساسنا بأننا مختلفون عما حولنا يجعلنا نشعر بالكثير من المشاعر المتناقضة . وإذا أردنا المضي مع الأمور إلى حدها الأقصى ، فإننا سنقول إن لدينا في تعامل لناس مع محيطهم صورتين متقابلتين : صورة طابعها التنافس وصورة طابعها المؤازرة والتعاون ، ولعلي ألقي الضوء على كل منهما عبر المفردات الآتية :
1ـ صورة العداء والتنافس :
حين يتضخم الشعور بالوجود الذاتي على حساب الوجود العلائقي ، فإن المتوقع حينئذ هو جنوح الإنسان إلى جعل علاقته بمحيطه وبيئته قائمة على التناقض والتنافس والعداء : إما أنا ، وإما من حولي ، وبالتالي فإن الهم الذي يسيطر عليه حينئذ هو كيفية استغلال علاقته بالأشياء لحسابه الشخصي ، إنه إنسان مشغول بالأخذ والاستحواذ ، ولا يمثل ( العطاء) بالنسبة إليه أي همٍ أو هاجس ، بل هو الشيء الذي لا يحب أن يتذكره ، ولا يحب من يذكِّره به . علاقة العداء والتنافس هذه تقوم على عدد من الأسس ، منها :
1- عقلية الشح والضيق والتي تقوم على أساس محدودية كل شيء وكون الطلب دائماً أكثر من العرض ، والشيطان هو الذي يدعم هذه العقلية ، وهذا واضح في قول الله ـ تعالى ـ : (( الشيطان يعدكم الفقر ، ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم )) ( البقرة : 268) .
2- الخوف من مكر القريب والبعيد والخوف من مفاجآت الأقدار ، والخوف من غدر الموظفين والعمال ، والخوف من تغير الظروف العامة …. الخوف من كل شيء ، ولهذا فلا بد من الاستعداد ، وخير استعداد لذلك هو تملك كل ما يمكن تملكه ومن كل شيء .
3- يعتقد أصحاب هذه الصورة : أن الصراع هو العلاقة الأساسية في الوجود ولاسيما في عالم الكائنات الحية ، حيث لا تمر لحظة حتى يلتهم كائن حي كائناً آخر ، ولا تمر لحظة حتى تحدث مئات من وقائع الظلم والعدوان ، ولهذا فإن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب.
إن نتائج هذه التصور لعلاقة الإنسان بيئية وما يحيط به هي التدمير والإتلاف ، وهذا ما بتنا نلاحظه اليوم على نطاق واسع ، فقد كان الآباء والأجداد يفخرون بحفاظهم على الأشياء واستخدامهم لها فترات طويلة ، أما اليوم فالناس يفخرون بسرعة تخلصهم من الأشياء القديمة وسرعة إحلال أشياء جديدة محلها .
صورة التعاون والمؤازرة :
تقوم هذه الصورة على أساس أننا جميعاً مخلوقات لله ـ تعالى ـ ولهذا فنحن وكل ما يحيط بنا من حي وجماد عبارة عن مفردات في منظومة ضخمة ، والعلاقة التي تربط بيننا هي ( التسخير ) وحتى يستمر التسخير ، فإن العلاقة التي يجب أن تسود هي الرعاية والتعاون ، والاهتمام المتبادل، وإن النصوص التي تدل على أهمية الحفاظ على الموارد والدالة على الرفق بالحيوان كثيرة ومعروفة ، والأكثر منها
النصوص التي تحث على رحمة الإنسان بأخيه الإنسان حيث إن مصير البشر واحد مهما باعدت بينهم الجغرافيا ، وفرَّقتهم السياسية .
هذه الصورة هي الصورة الإسلامية ، والأساس الفلسفي الذي تقوم عليه يؤكد على شيء جوهري هو : إذا أردت أن تتمتع بشيء ، فاسمح لمحيطك أن يتمتع به ، لأنك لا تستطيع أن تبني جزيرة للسعادة في بحر يموج بالشفاء والحرمان والظلم .. هل تريد أن تكون حراً مصون الكرامة ، إذن ساعد غيرك ممن يحيطون بك على أن يكونوا أحراراً ، وإذا انتهكت حرياتهم ، فدافع عنها ، لأنك بذلك تدافع عن حريتك .
هل تريد أن تكون ناجحاً إذن فتقاسم النجاح مع من حولك ، ولهذا فإن من المهم أن يعود شيء من نجاح الأب على أسرته وشيء من نجاح رب العمل على عماله وشيء من نجاح الدولة على شعبها … هل تريد أن تكون سعيداً ؟ إذن أشرك غيرك في سعادتك من خلال الابتسام والتقدير والإحسان … هل تريد أن تكزن عزيزاً؟ إذن لا تسحق من حولك ، وساعدهم على أن يعيشوا أعزاء … بعض الناس يذلون من حولهم حتى يتمتعوا بالعزة ، ولكنهم لن يجدوها لأن الذين سحقوهم هم الذين سيمنحونهم الاعتراف ،ولا قيمة لاعترافِ مسحوق.إن ما يسمى ب ( الكليات الخمس ) يؤسس لهذا المعنى فالمسلم مطالب بأن يحافظ على دينه وتدينه وعلى نفسه وعقله وعرضه وماله ، ومطالب كذلك بأن يساعد إخوانه المسلمين على مثل ذلك .
هذه الصورة تقوم على الآتي :
1- علاقتنا يبعضنا وبالأشياء هي فرع من علاقتنا بالله ـ تعالى ـ والذي يأمرنا بالتعاون والتراحم والاقتصاد في الإنفاق والحفاظ على الموارد .
2- الثقة في أن في فضل الله ـ تعالى ـ ما يكفي الجميع ، بشرط أن نبدع ونعمل بجدية وإخلاص .
3- ما في الأرض يكفي جميع الناس ، لكنه ليس كافياً لتلبية رغبات رجل واحد ، ولهذا فلا بد من وضع حدود لرغباتنا .
4- نحن نعرف أن التنافس موجود في هذه الحياة ، وهو في الغالب متصل بانحطاط المدنية ، ولهذا فإن كل تنافس ينبغي أن يفضي إلى التعاون بين المتنافسين ، وما لم نعمل على ذلك ونستهدفه ، فإن التنافس يتحول إلى احتيال وبغي وعدوان .
5- القاعدة العامة في علاقتنا بمحيطنا مختصرة ومركزة في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ــ : (( من أحب أن يزحزح عن النار ، ويدخل الجنة ، فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، ويأتي إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه )) رواه مسلم . وقوله : (( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )) متفق عليه . إذا أردنا لهذه الصورة أن تسود ، فإن علينا أن ندعِّمها بالكثير من المبادرات والبرامج التطوعية والخيرية وبالكثير من النظم والقوانين التي تحول دون بغي الناس بعضهم على بعض .
د . عبد الكريم بكار
في 16/ 11/ 1431