مخاض مجتمع
ليست الجهالة بما تأتي به الأيام شيئاً جديداً على الوعي البشري، بل هو الشيء المألوف والمتوقع، وعلى مدار التاريخ كان الإنسان مستعداً للتكيف مع الظروف والمعطيات الجديدة، وبما أن التغير كان بطيئاً جداً، فإن توقع ما سيكون لم يكن صعباً، كما أن المطلوب من التأقلم كان محدوداً، لكن كل هذا قد تغير اليوم على نحو يولِّد الدهشة.
ومن الواضح جداً أن التطور التقني الحادث اليوم قد جعل الواحد منا وكأنه يخالط نماذج من كل البشر، ويطلع في آن واحد على كل الأفكار والمفاهيم والعقائد الموجودة لدى كل الملل والنحل، وهذا يشكل دفقاً ثقافياً يصعب على الوعي البشري التعامل معه وتمييز غثّه من سمينه، وهذا يجعلنا نقول: إن مجتمعاتنا العربية والإسلامية هي فعلاً اليوم في حالة مخاض، ولا ندري بالضبط ما الذي ستكون عليه أوضاعها المختلفة بعد عشر أو عشرين سنة، وهذا شيء يبعث على القلق، ويجعلنا نعاني من ضعف اليقين تجاه العديد من الأمور، ولعلي أشير إلى بعض ما أهجس به عبر الحروف الصغيرة الآتية:
1ـ لا ينبغي أن نفهم أن ما هو قادم هو مجموعة من الشرور والسلبيات، فقد مضت سنة الله ـ تعالى ـ في ابتلاء خلقه أن تأتي المشكلات والأزمات، ومعها بعض طرق حلها والتعامل معها، كما أنه يكون معها شيء من الخير الظاهر أو الكامن، كما مضت سنته ـ جل شأنه ـ في أن يكون مع الخير والرخاء شيء من الشر والتحدي، ولهذا فإن ما هو قادم يحتاج إلى انتباه وحذر أكثر حتى نستفيد من خيره، ونتقي شره، وعلى كل حال فإن طريقة تعاملنا مع الأشياء تؤثر في النتائج أكثر من تأثير طبائع تلك الأشياء.
2ـ حين يقل العلم وينتشر الجهل، فإن من السهل على الناس أن ينظروا إلى ما هو من قبيل الرأي والاجتهاد الشخصي على أنه حقائق ومسلمات غير قابلة للنقاش، وهذه النظرة هي السبب المباشر في انتشارالتقليد والتعصب والجمود الذهني والثقافي، أما اليوم فإن الناس يطلعون على كل ما يُقال وحول كل شيء، وهذا فيه إيجابية واضحة، هي الاندفاع نحو التجديد وتوسيع الأفق والتخلص من تقديس الأشخاص والأقوال، لكن السلبية التي بدأنا نلمسها اليوم هي ظن كثير من المثقفين أن في إمكان كل واحد منهم أن يقول ما شاء فيما يشاء، وهذا كان واضحاً جداً تجاه العديد من الفتاوى اللافتة للنظر، وكأنه ليست هناك قطعيات يتفق عليها أهل العلوم المختلفة، ولا مرجعيات تفصل في الأمور المتنازع فيها، وهذه سلبية كبيرة في نظرنا؛ لأنها تبلبل أذهان الناس، وتوقعهم في المزيد من الحيرة، لكن ليس هناك علاج حاسم لهذه المشكلة، سوى نشر ثقافة احترام التخصص وثقافة الإعراض عن أولئك الذين يتحدثون في كل شيء دون أن يتقنوا أي شيء!
3- الناس اليوم -وبسبب من الاطلاع الواسع على ما يجري، وعلى ما هو سائد في العالم- أخذوا يعيدون اكتشاف الكثير من الأشياء، ويعيدون تقييم نظرتهم لأنفسهم وواقعهم وماضيهم، ولا يخفى أن نظرة الناس إلى ما كنا نطلق عليهم الأسلاف العظام والأئمة الأعلام قد تغيّرت، حيث يتبلور اليوم اعتقاد جديد يقول: إن السلف السابقين كانوا يرون الأشياء من واقع خبرة أقل من الخبرة المتوفرة اليوم، كما أن التراكم المعرفي الذي كان في زمانهم أقل بما لا يُقارن مما في حوزتنا اليوم، ولهذا فإن من المتوقع أن يمثل السابقون طفولة الوعي، وأن نمثل اليوم شبابه، وهذا الاعتقاد يتجلّى في الجرأة القوية على الاجتهاد، كما يتمثل في الاستشهاد المكثف بأقوال لفلاسفة وعلماء معاصرين وغير مسلمين ينتمون إلى كل بلاد العالم وكل ألوان الطيف، وهذه الوضعية تعني الكثير والكثير، وسيكون لها آثار كبيرة، من أهمها تشكل رؤية جديدة للحياة وللمستقبل الدنيوي والأخروي، وهذه الرؤية ستعتمد على مجموع رؤى العالم لذلك المستقبل، ولن تكون المذهبية الإسلامية سوى أحد المكونات القوية لتلك الرؤية، على حين أن المذهبية الإسلامية كانت تنفرد في الماضي بتشكيل معظم طموحات الناس ومعظم نظراتهم للواقع والمستقبل.
4ـ اتساع كل جوانب الحياة العامة، وتعدّد المعطيات ووجود عدد هائل من الأقسام والتفاصيل في كل شيء ولكل شيء سوف يجعل كل ما لدينا من نصوص وحكم وأقوال مأثورة غير كافٍ لتوفير مرجعية كاملة وكافية، وهذا سيدفع إلى التوسع في الاجتهاد والاقتباس من الثقافات الأخرى، ولهذا مخاطره التي لا تخفى؛ إذ لا يكفي أن تؤمِّن مرشدات لتوجيه حياتك اليومية، بل عليك إلى جانب ذلك أن تحافظ على الاتجاه الإستراتيجي، وتبقى على تواصل مع أهدافك الكبرى، وهذا ليس بالسهل في ظل ما أشرنا إليه، وفي ظل تجاهله من قبل عدد كبير من المؤثرين في الرأي العام.
أعتقد أننا لا نبذل ما يكفي من التأمل والبحث والدرس في مآلات التحوّلات العاتية التي باتت تجتاح كل شيء، وإن فرص الاستدراك ما زالت موجودة، وإن علينا أن نفعل ذلك.