مابعد الثراء
فُطر الإنسان على حب الخير والنظر إلى المال على أنه مفتاح ووسيلة للحصول على كل أو معظم الأشياء ، ولهذا فإن من النادر أن تجد من يتعامل مع الثراء على أنه تحدٍ ، يحتاج إلى تدبير وكياسة في التعامل ، وإلا صار مصدراً للأذى والضرر ، مع أن القرآن الكريم ، وضّح لنا دون لبس أن الغنى مثل الفقر أداة اختبار وابتلاء على نحو ما نجده في قول الله ـ تعالى ـ : (( ونبلوكم بالشر والخير فتنة ، وإلينا ترجعون )) : ومذهبي إيثار الغنيِّ الشاكر على الفقير الصابر ، لأن الغني يستطيع الإسهام في حل كثير من المشكلات ، على حين أن الفقير مشغول بنفسه ، بل إنه ينتظر المساعدة من غيره . المال في الرؤية الإسلامية وسيلة لقضاء الحاجات والشعور بالاستقرار والرضا ووسيلة للتقرب إلى الله ـ تعالى ـ وإن تحويل بعض الناس له إلى غاية وشيء مقصود لذاته يُدخل الكثير من الخلل على حياتهم الشخصية ، وعلى الحياة العامة أيضاً ، وهذا الإشكال لا يقتصر في الحقيقة على المال بل هو عام ، في كل شؤون الحياة ، إذ إن تحويل الوسائل إلى غايات والغايات إلى وسائل موصول دائماً بانحطاط المدنية والاضطراب الشامل .
السؤال هو : ما الطريقة المثلى لتعامل الأفراد والحكومات مع الثروات التي تصبح بطريقة ٍ ما في حوزتهم ؟
في مقاربة الجواب أقول : إن على الفرد أن ينظر إلى الثروة على أنها نعمة كبرى من الله ـ تعالى ـ لكن هذه النعمة تشبه الوردة المحاطة بالأشواك ، ومن ثم فإن من المهم التعامل مع الثروة على أنها شيء يحتاج إلى إدارة وعلم وحكمة وانضباط ، وقد يتجلى ذلك في الآتي :
1- الحذر الشديد من استخدام المال في معصية الله ـ تعالى ـ لأنه بذلك يتحول من نعمة إلى نقمة ويتحول معه صاحبه من النجاح إلى الفشل.
2- من السهل أن يصبح المال مصدر انحطاط للشخص وذلك من خلال الاستغراق في تثميره والتمتع به ، ونحن نعرف الكثير من أبناء الأثرياء الذين انصرفوا عن إكمال تعليمهم بسبب الاعتقاد بأن التعليم للوظيفة ، وهم ليسوا في حاجة إليها ، كما أننا نعرف الكثير من الناس الذين حوَّلهم المال إلى طغاة ومتكبرين ، إن ( المال ) يشبه ((النار ) فنحن في حاجة إلى الانتفاع بكل منهما ، كما أنه يمكن لهما تدمير الكثير من الأشياء العزيزة .
3- الصدقة وصلة الرحم والتوسعة على العيال وإكرام الإخوان من الوجوه الحسنة للاستفادة من المال ونحن نعرف أن الإنفاق في سبيل الله باب عظيم من أبواب التقرب إليه ، بالإضافة إلى أنه وسيلة مثالية لحفظ المال وتنميته ، والآيات والأحاديث في هذا كثيرة ومشهورة
4- الاستفادة من المال في التعلم وحضور الدورات التدريبية وتعليم الأبناء ، وهذا مهم للغاية لأننا بذلك نقوم بترجمة المكاسب الاقتصادية إلى مكاسب ثقافية ، وبذلك يصبح المال عاملاً في إحداث تغييرات عميقة في شخصياتنا بعد أن كان عبارة عن شيء نملكه ، وقد نفقده .
أما ماعلى الحكومات أن تفعله بالثروات التي تجتمع لديها ، فإنه يتلخص في الآتي :
1- الإنفاق على البنية التحتية والخدمات العامة لأنها تشكل في النهاية بيئة العيش وبيئة العمل لجميع المواطنين ، ومن الصعب أن تحدث تنمية جيدة في ظل انقطاع الماء والكهرباء وفي ظل عدم وجود طرق ووسائل نقل مناسبة …
2- استعادة التوازن الاجتماعي ، وذلك لأن هناك الكثير من الأسباب التي تؤدي إلى وجود طبقة فقيرة بل معدومة ، ويمكن للدولة أن تستخدم الثروة في دعم المشروعات الصغيرة ورصد المنح الدراسية لأبناء الفقراء وتقديم المساعدات المالية لهم من أجل ضمان حد أدنى من العيش الكريم
3- الإنفاق بسخاء على التعليم والبحث العلمي وتوجيه المال لإيجاد أنشطة ووظائف على صلة بالمعرفة ، وهذه قضية مهمة ، حيث يشهد العالم اليوم تكون رأس مال عالمي جديد ، قوامُه المهارة والمعرفة والقيادة والإبداع ، ورأس المال هذا هو الذي ترتكز عليه الشعوب حين تنضب ثرواتها ومعادنها ، وحين يبلغ النمو المادي أقصاه .
4- إدخار شيء للأجيال القادمة ، فالتغيرات العالمية الهائلة والسريعة تجعل المستقبل شديد الغموض ، ومن المهم حينئذ ألا نضع أحفادنا في ظروف لا يستطيعون تحمل عبئها ولأواءها .
د . عبد الكريم بكار
الرياض في 21/ 12/ 1431