وضوح الأفكار
كثيرًا ما نجد مشكلة في توضيح أفكارنا للآخرين، وكثير أولئك الذين يتعمدون الإبهام والغموض حتى تظلّ معاني ما يقولون في نطاق الاحتمال للعديد من التفسيرات. بين العجز عن التوضيح وتعمّد الإبهام يتيه ألوف الناس، وتثور عواصف من الجدل والملاحاة، فكيف يمكننا فهم هذه القضية، وما الأسلوب الأمثل للتعامل معها؟
1- سنظل نواجه نوعًا من التحدي في جعل أفكارنا واضحة ومتألقة، وهذا يعود إلى أن كل اللغات مصابة بالقصور الذاتي على مستوى نظم التعبير والصياغة وعلى مستوى نظم الفهم والتفسير والتأويل، وقد قال أحد المفكرين: لو شرحت فكرتك للناس عشرين مرة، ووجدت أنهم قد فهموا عنك ما تريده على نحو تامّ، فأنت محظوظ! وليس هذا وحده هو مصدر غموض الأفكار بل هناك شيء يتعلق ببنية الأفكار ذاتها، وهو أن الحقيقة ذات طبقات عدّة، وكلما غصنا في طبقاتها وجدنا أنفسنا أقلّ قدرة على الفهم والإدراك، وقليلون جدًا أولئك الذين يتقنون (الحفر المعرفي) وأولئك الذين يشعرون بالحاجة إليه. نحن دائمًا نظن أن أفكارنا واضحة، ولهذا فإننا لا نهتم بتوضيحها كما ينبغي، ولا نكتشف مدى ما فيها من إبهام إلاّ حين يُطلب منا شرحها، أو حين نحاول إثراءها بالأمثلة.
نحن اليوم في حاجة ماسَّة لأن نكون أكثر وضوحًا، وذلك بسبب الضعف اللغوي الخطير لدى الأجيال الجديدة وبسبب ما تنشره (الإنترنت) من سطحية التعامل مع الرؤى والمفاهيم على مستوى العالم، ومع هذا وذاك فإن علينا أن نقول: إنه سيظل من الصعب
توضيح الأفكار المعقدة والتعبير عنها بألفاظ سهلة، ففي ذلك نوع من الإساءة إليها، ولذا فإن علينا أن نسدّد ونقارب.
2- تتمثل الخطوة الأولى على صعيد وضوح الأفكار في أن تكون أفكارنا واضحة بالنسبة إلينا، حيث إن كثيرًا من الناس يردّدون مقولات لا يعرفون أبعادها على نحو جيد، ومنهم من لا يعرف المعاني الأولية لما يقوله، وكما نعرف، فإن فاقد الشيء لا يعطيه. إن أكبر دليل على وضوح أفكارنا بالنسبة إلينا هو ما نظهره من براعة في شرحها بأساليب مختلفة، وبراعة في توضيح ارتباطاتها (المفاهيمية) أي إدراكنا لمنابع أفكارنا وما يمكن أن تولّده من أفكار جديدة، وما تستدعيه من تطبيقات عملية.
3- لدينا مواقف كثيرة تدل على تعمد بعض الناس الهروبَ من الوضوح أو تدل على العجز عن الوصول إليه، ومن تلك المواقف الآتي:
أ- أشخاص كثيرون يدخلون على الشبكة العنكبوتية، ويبدون آراءهم حول ما يُنشر دون أن يكون لهم الأهلية الكافية لفهمه أو التعليق عليه، وبعضهم يكتب من خلال عاطفته وتحيزاته، وليس من خلال عقله، كما أن بعضًا منهم يستخدمون ألفاظًا جارحة في التعليق عوضًا عن استخدام الدليل والبرهان، ومع أن المشاركة تُعدّ شيئًا إيجابيًا في المجمل، إلاّ أن الذي ينظّم الرؤية، ويجعل الأفكار واضحة ومتّسقة ليس التهميش على أقوال الآخرين، وإنما الكتابة المستقلة، وهذا ما أدعو إليه شبابنا الناهض، حيث لا فكر من غير إنتاج فكري. وإلى جانب هذا فإن استخدام السب والتجريح والتحدث عن الشؤون الشخصية لبعض الكتّاب لا يساعد على توضيح الأفكار وتمحيصها ونقدها، وإنما يعمل على طمسها وتشويهها. إن الارتقاء بمستوى الطرح ومستوى النقاش وعدم السماح باختلاط الأوراق هو مسؤولية جماعية.
ب- الأفكارالعظيمة هي دائمًا أفكار بسيطة، ولهذا فإن من المهم دائمًا أن نمتلك مهارة الشرح المبسَّط لما نؤمن به من أفكار ورؤى، وإن الكتّاب العظام هم الذين يساعدون القرّاء على الوصول إلى أفكارهم بيسر وسهولة على قدر الإمكان.
جـ- بعض الناس يأتي غموض أفكارهم من وراء (الحيدة) عن المسألة موضع الاستقطاب، وذلك كما يفعل بعض الشباب حين يتحدثون عن تحرير الإسلام للمرأة من إرث الجاهلية، على حين أن النقاش يكون حول الوضع الراهن للمرأة المسلمة اليوم، وكما يفعل بعض الناس حين يتحدثون عن حقوق الإنسان في الإسلام، ويكون المطلوب هو الوضع الحقوقي للإنسان المسلم في العالم الإسلامي، حيث الانتهاك الصارخ في كثير من البلدان.
د ـ لدينا أناس كثيرون يحسنون الحديث عما لا يريدون، ولا تسمع منهم شيئًا ذا قيمة عمّا يريدون. إن مهمّتهم هي مهاجمة ما لا يروق لهم، وإذا سألتهم عن البديل لم تجد عندهم أي كلام ذي قيمة، وهذا شيء سيِّئ لأن الأفكار التي نهاجمها، قد لا تكون مثالية، لكنها أفضل المتاح، والمطلوب هو أن يعرض المرء ما لديه حتى يمكن مقارنته مع ما يردُّه، وينتقده.
إن وضوح الأفكار يشكل أساسًا للانطلاق في دروب النهضة، ومن غير ذلك، قد نفقد الاتجاه، و نصير إلى التشتت والتصادم عوضًا عن التلاحم وسلوك طريق واحد.