سورية : حين يغيب الشعور بالمسؤولية

نحن نعرف أن الله ـ تعالى ـ يسأل على مقدار ما يعطي، فالناس مسؤولون عن استخدام الإمكانات التي بين أيديهم، ومن ثم فإن من الطبيعي أن تكون مسؤولية الوزير أكبر من مسؤولية المدير، وحين لا يدرك المسؤول الكبير حجم ما هو مسؤول عن رعايته وإدارته فقد تحدث كوارث كبرى، وهذا ما نخشاه في سورية بالضبط ، فالنظام الذي يتصرف بمقدرات البلد نحواً من نصف قرن يبدو أنه لا يعي حجم التخريب الذي يحدثه اليوم في النسيج الأخلاقي والاجتماعي للشعب. إن سورية شديدة التنوع، ومن ثم فإن علي من يدير شؤونها أن يمتلك حساسية خاصة حتى لا يتحول التنوع من مصدر للثراء إلى مصدر للتدمير، ولعلي أسلِّط الضوء هنا على المعاني الآتية : 1ـ الإعلام هو أول ما نشعر أنه يتصرف من غير أي شعور بالمسؤولية حيث إن ما تذيعه الوسائل الإعلامية المملوكة للنظام وتلك التي تدور في فلكه يقوم على أحد احتمالين : الأول هو أنه ليس في سورية شعب يستحق أن يخاطَب بما يساعده على فهم الواقع وتشكيل رد فعل راشد نحوه ، أما الثاني فيقوم على أن الشعب موجود لكنه جاهل وغبي وأعمى وأصم، ولهذا فإن في إمكانه أن يصدق كل ما يقال له ، وإلا فما معنى أن يقتل النظام قرابة ألفي شخص، ثم يدعي من خلال أبواقه المأجورة أن العصابات المسلحة هي من فعلت، وتفعل ذلك مع أن النظام عجز عن بث مقطع واحد يصور أي شخص من العصابات المزعومة يطلق النار على المتظاهرين، أو يصور معركة تدور بين الأمن والجيش وبين أي عصابة أو فرد منها، وجماهير الناس مجمعة على أن العصابات المسلحة ليست سوى عناصر الأمن وفرق الموت التي حشدها النظام لإخماد الثورة . والحقيقة أن بين الإعلام السوري وبين جلادي الشعب تحالفاً قديماً يقوم على أن يسمى الإعلام الأشياء بما يخدم مصلحة النظام ، وتلك التسميات كثيراً ما تكون خاطئة أو خادعة، فالمستبد الظالم المرتشي لا يستطيع الاستمرار إلا من خلال الكذب والتضليل . أما القوات الأمنية فإن مهمتها عدم السماح للناس بتسمية الأشياء بأسمائها أو بحسب ما يعتقدون، فإذا قال الإعلام عن شخص إنه خائن أو عميل، فالويل لمن يقول غير ذلك! ومن حسن الحظ أن يكون المتظاهرون بل معظم الناس في سورية على وعي عميق بكل ذلك، ولهذا فإن كثيراً من اللافتات التي يحملها المتظاهرون تحمل عبارة : (( الإعلام السوري كاذب )) ! . 2ـ العجيب الغريب في بلد العجائب أن يصدر مرسوم جمهوري عام (1969) يقضي بعدم مساءلة رجال الأمن عن الأعمال التي يقومون بها خلال أدائهم لوظيفتهم، وفي هذا تشجيع لهم على القتل والتعذيب والسلب والنهب، وقد شاهد العالم بأسره عبر الكثير من مقاطع ( الفيديو) كيف يتم قتل النساء والأطفال بدم بارد، وكيف يتم تعذيب الشباب والشيوخ إلى حد هدر الكرامة الإنسانية، والإصرار على كسر الإرادة لمن يقع تحت أيديهم . ولم يكتف النظام بذلك لكنه عمد إلى تجنيد قطاع الطرق ومهربي المخدرات واللصوص والعاطلين عن العمل ليقوموا بقمع المظاهرات ومداهمة البيوت وإذلال الناس، وهؤلاء ممن يسمون (الشبيحة) أو (البلطجية) يعيثون في سورية فساداً دون أن يعرف أحد من المسؤول عن قيادتهم أو عن القوانين التي يخضعون لها، وكم هو مؤذ ومؤلم أن ترى أراذل الناس وهم يضربون ويهينون مثقفي المجتمع ودعاته وأهل الشهامة والمروءة من أبنائه، كيف يمكن للناس ألا ينفجروا حيال هذه المشاهد، ويستخدموا كل ما لديهم من وسائل لمنعها ؟ !. 3ـ النظام مارس الطائفية على مستوى الجيش والأمن ممارسة وقحة وفجة، وما زال يمارسها، وهو في الوقت نفسه يحرم على الناس التحدث عنها ، بل يتهم الثوار بأنهم هم الذين يثيرونها مع أن حناجر الثوار قد بُحت من ترديد العبارات الدالة على أن الثورة لكل الناس، وأنها شعبية بامتياز . إن تعذيب الناس وقتلهم والافتراء عليهم كما يفعل النظام قد يدفع الكثير من الناس إلى استخدام العنف، كما يدفع إلى الاقتتال الطائفي، ومع أن الثوار مصرون كل الإصرار على سلمية الثورة وصيانتها من أي نزعة طائفية أو عرقية … فإن على النظام أن يدرك أنه يلعب بالنار وأن حصانة الشعب ضد الطائفية مهما تكن قوية وراسخة، فإنها في النهاية محدودة، ويمكن أن تنهار في أي لحظة ، حيث إن التاريخ يعلمنا أنه حين يفشو الظلم لا يبقى هناك شيء مقدس . إن النظام البائس يسعى فعلاً إلى إشعال الفتنة الطائفية، كما يسعى إلى صرف الثورة عن سلميتها، وإن نجاحه في أي من هذين المسعيين سيجعل كل ما بذل من تضحيات على طريق التخلص منه في مهب الريح . ومن هنا فإنني أناشد الثوار الأحرار الحفاظ على سلمية الثورة إلى آخر لحظة، كما أنني أدعو العقلاء من أبناء الطوائف كافة إلى تشكيل لجان ومجالس شعبية تعبر عن تماسك الشعب ووحدته، وتحول دون الانزلاق إلى الاقتتال الطائفي، كما تحول دون تحول الأخطاء الصغيرة من هذه الطائفة أو تلك إلى فتنة عظيمة تهدد السلم الأهلي برمته، ويتأكد هذا المسعى في المناطق الساخنة مثل حمص واللاذقية . إن ثورة السوريين من أعظم ما شهده تاريخ العرب من ثورات، وإن نجاحها سيغير خريطة المنطقة ويضرب كل التوازنات الظالمة السائدة اليوم، وهذا شيء يستحق التضحية . والله غالب على أمره.

 

د. عبد الكريم بكار في 26/8/1432