جوهر الإنجاز
خبرت سورية في تاريخها الحديث عددًا من الانقلابات العسكريّة، لكنها لم تشهد أيّ ثورة منذ ما يزيد على ستة عقود، إلى أن بدأت أحداث ما يُسمّى بـ (الربيع العربي) في تونس، وكان من المستبعد جدًّا أن تمتد روح التغيير ورياحه إلى سورية، لا بسبب عدم وجود ما يستدعي ذلك، ولكن بسبب اعتقاد معظم الناس هناك بأنه لا أفق لفتح أي باب من أبواب السجن الكبير المحكمة الإغلاق والمحروسة بأعتى القوات، لكن إرادة الله غالبة، وحدثت الثورة.
من المهم أن نكون ابتداء على وعي بالفارق بين الانقلاب والثورة، الانقلاب يكون باجتماع مجموعة من الضباط على إزاحة جهاز الحكم القائم وتنصيب جهاز جديد قد يكون من العسكريّين، وقد يكون من المدنيّين، وقد يكون الجهاز الجديد أفضل من الجهاز القديم، وقد يكون أسوأ ـ وهذا هو الغالب ـ ومهما يكن الأمر فإن التغيير لا يمسّ الشعب على أيّ مستوى من المستويات، والقائمون عليه لا ينتظرون من الشعب أيّ مساندة تُذكَر.
إذن الانقلاب عمل فوقيٌّ حاسم وسريع، وبما أن الناس هم الأساس في عمليات التغيير الكبرى، فإن ما يلحق بالأمم ـ في الأعم والأغلب ـ من أضرار بسبب الانقلابات العسكرية أكثر مما تناله من منافع. أما الثورة الشعبيّة فلها شأن آخر، إنها ذلك الجهد الشعبي المتّجه من المركز إلى المحيط على مستوى الهياكل والقواعد العريضة، وهذا ما نلمسه في سورية اليوم على نحو واضح؛ فالناس اليوم شرعوا بتغيير أوضاعهم من الداخل على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع، والحقيقة أن سورية شهدت خلال العقدين الماضيين موجات تحديث مسّت المظاهر والشكليّات والمادّيات، لكن من غير أي تقدّم أخلاقيّ وقيميّ، بل إن النظام أفسد المجتمع من خلال التحالفات التي عقدها النافذون فيه مع رجال المال والأعمال، ومن خلال الرشوة ومحاباة بعض الطوائف على حساب الأكثرية، ونحن نعرف أن الازدهار الاقتصادي يتحوّل إلى عبء على الفرد والمجتمع ما لم تتمّ ترجمته إلى مكاسب ثقافيّة وأخلاقيّة؛ فالرخاء الاقتصادي ينبغي أن يساعد الفرد على الارتقاء بذاته وعلاقاته ووعيه؛ إذ إن التقدّم الحقيقيّ في الرؤية الإسلاميّة ذو طابع روحيّ وأخلاقيّ في المقام الأول.
اليوم نستطيع أن نقول: إن الثورة في سورية قد أنجزت الكثير من مهامها، وهذا الإنجاز يمكن ملاحظته على مستويين:
الأول: مستوى الوعي حيث صار الناس على معرفة تامّة بألاعيب النظام الذي يعملون على الخلاص منه، كما أنهم تعرّفوا على مكامن القوّة لديهم، والأهمّ من كل ذلك أنهم عرفوا بالضبط ماذا يريدون، واستطاعوا الالتفاف حول المبادئ والأهداف الكبرى مع غضّ الطرف عن كثير من الأمور التي كانت تفرِّقهم في الماضي.
الثاني: مستوى القيم والأخلاق، وهو في ظنّي المستوى الأهم؛ لأن إحياء القيم في النفوس والمجتمعات يحتاج في العادة إلى وقت طويل، هنا نجد أن الثورة المباركة قد أحيت القيم الجوهرية التالية:
ـ كسْر الرهبة من السلطة وبعْث قدرٍ كبير من الشجاعة الأدبية في نفوس الرجال والنساء والصغار والكبار، وقد كان هذا شيئًا مهمًّا؛ لأن النظام استخدم إرهاب الناس عبر العقود الأربعة الماضية أداة لإخضاعهم وابتزازهم.
ـ الشعور بالآخرين والاهتمام بهم إلى درجة الفداء بالروح، كما يفعل الشباب الأبطال حين يُصاب أحد المتظاهرين؛ إذ ترى من يعرّض حياته لخطر محدق من أجل إسعافه، وسوف يأتي اليوم الذي تُكتب فيه الكتب حول التضحيات الكبرى التي قدّمها الثائرون من أجل تحرير البلد.
ـ تحرير النوايا وإخلاص المقاصد لله ـ تعالى ـ فقد أدرك كثير من الناس أن الخلاص من هذا النظام هو جهاد من أعظم الجهاد في سبيل الله، ولهذا فإنهم يبذلون الأموال والأوقات ويفكّرون ويبدعون ويتحرّكون… دون أن يخبروا أحدًا أو ينتظروا جزاءً من أحد.
ـ إيقاظ الروح الجماعيّة والمبادرة لخدمة البلاد والمصلحة العامة؛ إذ إن الوضع في سورية كان أشبه برجل يرقد في العناية المركزة منذ عشر سنوات. إنّه في نظر الناس ليس ميّتًا فيُنسى، ولا حيًّا فيُرجى، أما اليوم فالشباب يعملون ضمن مئات المجموعات من أجل إسقاط النظام الفاسد بروح توافقيّه رائعة وعظيمة.
إنّ الثورة السورية قد أحدثت في نفوس صانعيها وداعميهم والمتعاطفين معهم تغيّرات عميقة جدًّا، وإنّ هذه التغيّرات هي أكبر بشائر النصر، حيث إن الله الحميد المجيد إذا رأى أن عباده قد غيّروا ما يستطيعون تغييره في أنفسهم ومجتمعاتهم، فإنه يغيِّر لهم ما يعجزون عن تغييره، ويهيّئ أسبابه، وهذا ما ننتظره منه سبحانه.
إنّ الإنجاز الأساسيّ للثورة يكمن في تهيئة الناس لاستحقاق حكم رشيد يلبّي طموحاتهم، وهذا ما نجحت فيه الثورة السوريّة إلى حدٍّ بعيد.
والله المؤمَّل لكل خير.