إن خير من استأجرت القوي الأمين
قصّ الله جل وعلا علينا خبر موسى مع شعيب عليهما السلام حين جاء مدين ، ووجد ابنتين لشعيب قد منعتا غنمهما من الورود بانتظار ذهاب الرعاء وفراغ المكان ، وما حدث من تطوع موسى بالسقيا لهما ، وما كان من أمر شعيب حين بلغه ما قام به موسى حيث أرسل له يطلبه ليجزيه على ذلك وذكر لنا القرآن الكريم كذلك نصيحة ابنة شعيب لأبيها باستئجاره ، وعللت ذلك بقوة موسى وأمانته ، ويذكر المفسرون أن شعيباً عليه السلام أثارت حفيظته الغيرة من كلامها ، فقال : وما علمك بقوته وأمانته ؟ فذكرت له أن موسى حمل حجراً من فوق فوهة البئر ، لا يحمله في العادة إلا النفر من الناس وتلك قوته ، وأنه حين ذهبت تكلمه أطرق رأسه ، ولم ينظر إليها ، كما أنه أمر المرأة أن تمشي وراءه ، حتى لا تصيب الريح ثيابها فتصف ما لا تحل له رؤيته وتلك أمانته .
وقد صدق حدسها فهي ما رأت إلا نبياً من أولي العزم المؤتمنين على الوحي ، الأشداء الأقوياء ! وقد قيل : إن أفرس الناس ثلاثة : بنت شعيب وصاحب يوسف حين قال ( عسى أن ينفعنا ) [1] ، وأبو بكر حين اختار عمر لإمارة المؤمنين . [2]
وقد جمعت ابنة شعيب عليه السلام في تعليلها المختصر ذاك بين أمرين عظيمين ، ينضوي تحتهما معظم الكمالات الإنسانية ، وهما الأمانة والقوة ، وهذه وقفات سريعة معهما :
1- ليست الأمانة هنا إلا رمزاً لما يستلزمه الإيمان بالله تعالى من المحامد كالإخلاص والأمانة والصدق والصبر والمروءة ، وأداء الفرائض والكف عن المحرمات ؛ وقد قال أكثر المفسرين في قوله سبحانه : { إنا عرضنا الأمانة } [3]الآية : إن المراد بها التكاليف الشرعية عامة [4] ، وقد وصفت ابنة شعيب موسى بالأمانة لغضه طرفه ، ومشيه أمامها .
أما القوة فهي رمز لمجموع الإمكانات المادية والمعنوية التي يتمتع بها الإنسان.
2- الأمانة والقوة ليستا شيئين متوازيين دائماً ، فقد يتحدان ، وقد يتقاطعان فالصبر جزء من الأمانة ؛ لأنه قيمة من القيم ، وهو في ذات الوقت قوة نفسية إرادية ، وإذا كان العلم من جنس القوة ، فإنه يولد نوعاً من الأمانة ؛ إذ أهله أولى الناس بخشية الله ، { إنما يخشى اللهّ من عباده العلماء } [5] والإيمان أجل القيم الإسلامية ، فهو من جنس الأمانة ، ومع ذلك فإنه يولد لدى الفرد طاقة روحية هائلة تجعله يصمد أمام الشدائد صمود الجبال ، ومن ثم كانت الظاهرة الإسلامية العالمية :
ظاهرة ( المسلم لا ينتحر ) ! . إن هذا التلاقي بين الأمانة والقوة يمثل بعض الأرضية المشتركة لتلاقي أهل الأمانة وأهل القوة ، كما يجعل التحقق من إحداهما المعبر للتحقق من الأخرى .
3- سوف يظل النمط الذي يجمع بين القوة والأمانة نادراً في بني الإنسان وكلما اقتربا من الكمال في شخص صار وجوده أكثر ندرة ، والقوي الذي لا يؤتمن ، والموثوق العاجز هم أكثر الناس ، والذين فيهم شيء من القوة وشيء من الأمانة كثيرون ، وقد روي عن عمر رضي الله عنه : » أشكو إلى الله جَلَد الفاجر وعجز الثقة ، فكل منهما لا يمثل المسلم المطلوب ، ودخل عمر أيضاً على لفيف من الصحابة في مجلس لهم فوجدهم يتمنون ضروباً من الخير ، فقال : أما أنا فأتمنى أن يكون لي ملء هذا البيت من أمثال سعيد بن عامر الجمحي ، فأستعين بهم على أمور المسلمين ! .
4- العمل المقبول في المعايير الإسلامية هو ما توفر فيه الإخلاص والصواب والإخلاص ضرب من الأمانة ، والصواب وهو هنا موافقة الشريعة ضرب من القوة ، هذا بصورة عامة ، لكن في أحيان كثيرة يكون ما يطلب من أحدهما أكثر مما يطلب من الآخر ؛ فالثواب يتعلق بالإخلاص أكثر من تعلقه بالصواب ، فالمجتهد المؤهل ينال أجراً إذا استفرغ وسعه وإن كان اجتهاده خاطئاً ، لكن لا ثواب ألبتة على عمل لا يراد به وجه الله تعالى ، أما النجاح والوصول إلى الأهداف المرسومة في الدنيا فإنه مرتبط بالصواب أكثر من ارتباطه بالإخلاص ، فكم من مؤسسة يديرها أكفاء ليس عندهم شيء من الأمانة ، ثم حققت أهدافها المادية كاملة وكم من مؤسسة أدارها أخيار غير مؤهلين ، فأعلنت إفلاسها !
وقد ذكر ابن خلدون أن للناس مذهبين في استخدام الأكفاء غير الثقات وتقديمهم على الثقات غير الأكفاء ، واختار هو استخدام غير الثقات إذا كانوا مؤهلين ؛ لأن بالإمكان وضع بعض التدابير التي تحد من سرقاتهم أما إذا كان المستخدم لا يحسن شيئاً فماذا نعمل به ؟ ! [6]
وقد ولى النبي -صلى الله عليه وسلم-أهل الكفاية الحربية مع أن في الصحابة من هم أتقى منهم وأورع ؛ لأن القوة (البسالة وحسن التخطيط) تطلب في قيادة الجيش أكثر من الأمانة ، مع أنهم كانوا بكل المقاييس من الأمناء الأخيار وطلب بعض الصحابة ممن عرفوا بالزهادة والورع الولاية على بعض أمور المسلمين فحجبها عنهم لضعفهم .
5- نحن في مراجعة أخطائنا نركز على جانب الأمانة ، ونهمل جانب القوة فإذا ما أخفقنا في عمل ما قلنا نحن بحاجة إلى تقوى وإخلاص ، وإن اتباع الأهواء هو السبب في ذلك ، ولا ريب أن الإخلاص مفتاح القبول والتوفيق وأن التقوى تستنزل الفرج ، لكن ما هي المعايير التي تمكننا من قياس درجة التقوى ومقدار الإخلاص الموجود إذا ما أردنا التحقق منه وكيف نستطيع التفريق بين عمل دفع إليه الهوى وآخر دفع إليه الاجتهاد ؟ ! كل ذلك مما يستحيل قياسة ، وبالتالي فإنه لا يمكن تحديده وما لا يمكن تحديده لا يصلح لأن يكون هدفاً .
وبإمكان الناس أن يقولوا : إلى ما شاء الله نحن أتباع هوى دون أن تستطيع أن ترد على أحد منهم رداً شافياً قاطعاً ! على حين أن قياس القوة ممكن ، وإدراك الخلل فيها يكون عادة ظاهراً يمكن وضع الإصبع عليه فحين يأتي خطيب ليتولى إدارة جيش ، أو التخطيط لمعركة ، وحين يتولى رسم سياسات العمل رجلٌ لا يعرف الواقع ، فلا يقرأ جريدة ولا يستمع إلى نشرة أخبار ، ولا يحسن قراءة أي شيء يحيط به ، فإن الخلل لا يحتاج إذ ذاك إلى شرح حيث تتولى شرحه النتائج ! . وحين يتصدى للاجتهاد في أمور خطيرة أشخاص لا يملكون الحد الأدنى من المعلومات حولها ، وتترتب على اجتهاداتهم فواجع أكبر من أي جريمة ماذا تكون الحال ؟ !
لقد آن الأوان لوضع الأمور في نصابها ، بتأهيل الشخص قبل إيجاد العمل الذي سيعمله ، بدلاً أن يوجد المنصب ثم يبحث عمن يسد الفراغ ليس أكثر !
6- عالمنا الإسلامي النموذج المثالي للقوى الكامنة ، فكل ما عندنا (خام) الإنسان والطبيعة والموارد ، ولعل لله في ذلك حكمة بالغة ؛ إذ أن تشكيل الإنسان المسلم لو تم قبل بزوغ الصحوة المباركة لكان أكثر ضرراً من بقائه على حاله .
هذه القوى الكامنة ستظل ثغرات في حياتنا أياً كان موقعها في ظل التكالب العالمي على الصعيد الثقافي والاقتصادي ، وهذه القوى الكامنة تحتاج إلى تفجير وإلى إخراج في شكل جديد يمنحها وزنها الحقيقي وإخراج القوة مهمة الدولة أولاً ؛ فهي المسؤولة عن تفجير الطاقات كافة وتوجيهها ، ومهمة صفوة الصفوة من صانعي المبادرات الخيّرة ، الذين يمتد بصرهم دائماً إلى مستوى أعلى من المستوى الذي تعيش فيه أمتهم فيوجدون باستمرار الأفكار والأطر والأجواء والآليات التي تُفَعّل القوى الخامدة المجهولة للناس حتى حامليها .
واليهود هم من أساتذة العالم في (إخراج القوة) وتوظيفها واستغلالها وصحيح أن ديننا يحول بيننا وبين وسائل كثيرة استخدموها حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه ، لكنني أعتقد أنه مازال في هذا العالم مكان فسيح للمسلم المبصر الأريب ..
وقد بدأت الأمة في امتلاك القوة ، وبدأ المارد الذي نام قروناً يصحو وهو الآن يتفقد أعضاءه وحواسه ، ويحاول أن يتعلم المشي في (حارة) الكرة الأرضية ، لكن بعضاً منا بدؤوا يخبطون يمنة ويسرة قبل أن يفتحوا عيونهم وقبل أن يعقلوا الأجواء التي يصحون فيها ؛ ليغروا العدو بتوجيه الرصاصة القاتلة قبل أن يقفوا على أقدامهم ! .
إن فهم الحياة المعاصرة شرط أساسي يجب توفيره عند كل أولئك الذين يريدون توجيهها والتأثير فيها ، ولن يكون ذلك ممكناً ما لم نكن نحن من صانعي قراراتها وخياراتها ..
7- الأمانة قيد على القوة ، فهي التي تحدد مجالات استخدامها وكيفياته والقوة الآن في يد الآخرين على ما نعرف ، والقيود الأخلاقية عندهم آخذة في الضعف يوماً بعد يوم ؛ لأنها لا تعتمد على إطار مرجعي أعلى يمنحها الثبات ومن ثم فإن القوة ليست في طريقها إلى الانطلاق من أي ضابط أو حسيب ، لكنها في طريقها إلى صنع قيودها بنفسها الصناعة التي تمكنها من مزيد من الانطلاق ، وهي بذلك تجعل الآخرين يتوهمون أنها قيود ؛ حتى لا يشعر أحد أن هناك فراغاً أخلاقياً يجب ملؤه ! وما النظام العالمي الجديد سوى الأحرف الأولى في أبجديات القيود الجديدة ! .
وهذا يوجب علينا المزيد من التفكير والتأمل فيما يجب عمله ، ونحن مع ضعفنا قادرون في هذا المضمار على عمل الكثير الكثير إذا فهمنا لغة العصر ، وأحسنا إدارة الصراع ؛ إننا نملك القيود (الأمانة) ، وهم يملكون القوة ، فهل نسعى إلى امتلاك القوة المقيدة حتى يصطلي العالم بالنار دون أن يحترق ؟ ؟
________________________
(1) سورة يوسف : 21 .
(2) الكشاف 3 : 163 .
(3) الأحزاب : 72 .
(4) انظر البحر المحيط 7 : 253 .
(5) سورة فاطر : 28 .
(6) انظر مقدمة ابن خلدون 2 : 279 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم أ.د. عبدالكريم بكار