إدارة التناقض

 
وجود نوع من التناقض بين الأفراد داخل الأمة ، وبين أمة وأمة ، هو معقد من معاقد الابتلاء في هذه الحياة ، وهو أيضاً مدخل كبير للتطور والتقدم الحضاري ؛ فالوعي يتقدم من خلال اختلاف المستويات أكثر بكثير مما لو ساد الحياة التشابه والتماثل . والتناقض بعد هذا وذاك أداة كبرى للتميز ؛ فمن غيره لا يشعر الأفراد ، كما لا تشعر الأمم بالخصائص والميزات الفارقة بينها .
أمة الإسلام هي آخر الأمم ، ورسالتها هي خاتمة الرسالات ؛ ولهذا فنحن ورثة تراث الهداية في البشرية ، وتاريخ البشرية هو تاريخ الرسل والرسالات والنبوة والأنبياء ؛ وهذا يلقي علينا مسؤولية خاصة نحو العالم ؛ إنها مسؤولية الدعوة والهداية والإصلاح والإنقاذ . وحتى نستطيع القيام بهذه المهمة على الوجه الصحيح فإننا بحاجة إلى العديد من الأمور والتي من أهمها :
1 – السعي المتواصل للمحافظة على الهوية التي تعني دائماً وضوح الميزات التي تميّز أمة الإسلام عن غيرها من الأمم على مستوى العقائد والأحكام والآداب ، وهذا سيكون قليل النفع إذا ظل وضوحه على مستوى الكلام ، وإنما يجب أن يتجسد في حياة أكبر شريحة ممكنة من المسلمين ، وهذا ما يؤمِّنه الالتزام الدقيق .
2 – ينبغي أن يهيمن على علاقاتنا بغير المسلمين الإحساس بواجب التبليغ ؛ فأمتنا صاحبة حاجة لدى الأمم الأخرى ، وهذه الحاجة تتمثل في حرصها على أن تصل دعوة الإسلام إذا أمكن إلى كل شخص في العالم ؛ فأهل عصرنا يعيشون أزمات صامتة خانقة ، والإسلام هو المنقذ الوحيد لهم من تلك الأزمات .
3 – التناقض بين الأمم كثيراً ما يفرض أشكالاً من العداء والصراع ، وهناك شواهد كثيرة قديمة ومعاصرة على أن الصراع حين يقوم كثيراً ما يكون قيامه على أسس من الخلاف العقدي أو العنصري أو التاريخي … لكنه في الغالب يتحول بعد مدة إلى صراع من أجل المصالح ، ومن الضروري عند هذه النقطة أن يظل الصراع مرتبطاً بالتناقض العقدي ؛ لأن ذلك ينبه الخصم إلى أننا نصارع من أجل القيام بواجب ديني دعوي ، وليس من أجل تحقيق مصلحة مادية خاصة ؛ وحين يأخذ الصراع طابع تحقيق المصالح يفقد الكثير من مشروعيته ، ويفقد المساندة التي يحتاجها من عموم الأمة .
4 – في حالة التناقض تكون مقولات المتناقضين أقرب إلى الجلاء والوضوح ، وحين يبدأ الصراع كثيراً ما ينطمس التناقض المنهجي ، وتسود روح الثأر والانتقام ؛ ولذا كان من أدبيات الصراع المسلح لدى المسلمين أن يبدؤوا بدعوة الخصم إلى الإسلام أولاً إعلاناً منهم أنه قتال بسبب التناقض وما يستلزمه ، وليس من أجل مصلحة دنيوية ، وحين أوصى أبو بكر رضي الله عنه جيشه وصيته المشهورة بعدم قتل النساء والأطفال إلخ … كان يهدف إلى ألاَّ تضيع ميزات جيش المسلمين وأخلاقياته وأهدافه الأصلية من الجهاد في خضم الصراع ومحاولات الغلب والظفر .
5 – الدعوة إلى الله تعالى هي الأساس وانتشارها هو الهدف . وحتى نتيح للناس سماعها ، فيجب أن نهيِّئ الأجواء الملائمة للتبليغ . وحين ينشب صراع فيجب أن يستهدف على المدى البعيد تحقيق تلك الأجواء ؛ ولذا فإن الصراع الشديد والطويل كثيراً ما يطمس معالم التناقض ، ويحرم الدعوة من الهدوء الذي تحتاجه ، وربما كان قبول النبي صلى الله عليه وسلم بشروط قريش المجحفة في صلح الحديبية من أجل تأمين الجو الهادئ الذي يتيح لقريش التعرف على الإسلام .
6 – يأخذ الصراع شكل الطفرة وشكل الانقلاب ، ويتسم القائمون عليه بالحدة وقصر النفس ، وتسيطر عليهم العاطفة ، أما التميز المنهجي والحضاري فيأخذ شكل العمل المتراكم ، ويتحلى أصحابه بروح الثورة والاستمرارية والعطاء على المدى البعيد ؛ ومن المهم ألا نفقد هذه الروح في حمأة الغضب .
7 – نقطة التفوق الكبرى لدى أمة الإسلام اليوم تتمثل في المنهج الرباني الذي تشرُف بحمله ؛ على حين أنها في الميادين الاقتصادية والتقنية العسكرية ضعيفة وعالة على الأمم الأخرى ؛ ولذا فإن من المهم أن نكثّف المجابهة في الساحة التي نملك عناصر القوة فيها ، وأن نكون على حذر ، من أن يجرنا الخصم إلى ساحة تفوُّقه ، فنفقد ميزاتنا ، وتضطرب أمورنا .
والله ولي التوفيق .

بقلم: د. عبدالكريم بكار