هدايا الغرباء
الشاغل الأول للثقافة الشعبيّة بما هي عادات وتقاليد ونظم ورمزيّات يتمثل في تحقيق أكبر قدر ممكن من التلاحم الأهليّ والتواصل الأخويّ وهي في سبيل تحقيق ذلك تجد نفسها مضطرّة إلى التغاضي عن كثير من الأخطاء الاجتماعية، والقبول بالكثير من الأوضاع والأشياء السيئة والضارة. إنها تجعل من نشاطها مركزاً للتسويات، وتبدي براعة نادرة في إبداع أنصاف الحلول وإمساك العصا من الوسط.
إن الناس يلوذ بعضهم ببعض في الرأي والموقف كما تلوذ الطير ببعضها أيام الصقيع.
إن التقليد والحرص الدائم على التوافق والتطابق، يعطي دائماً إشارات الرّضا عن الأوضاع السائدة؛ لأنه يساعد على ذبول ملكة التمييز والتفريق بين الأشياء، ويجعل القدرة على النقد في أوْهَى حالاتها.
إن الثقافة الشعبية السائدة في أي مجتمع تدفع بالناس نحو التوحّد الشكلي بسبب الصندوق الذي تضعهم فيه. وذلك الصندوق مملوء بالتّحيّزات والأهواء والرؤى الجزئيّة المبتسرة، كما أنه مملوء بالمعايير والمقاييس غير العلمّية وغير الموضوعيّة. وفي كل الحالات يكون الخروج من ذلك الصندوق أو محاولة النظر إلى ما في خارجه –على أقل تقدير- شرطاً أساسياً لامتلاك رؤية أصيلة ونظرة جديدة للذات وللعالم.
إن الوحي بما هو شيء منفصل عن إنجازات البشر، يُخرج أفذاذاً من الناس من صناديقهم الثقافيّة، ليقوموا بعد ذلك هم وأتباعهم بكسر الاتّساق والمنطق الشكليّ الذي يشعر به سكان الصندوق؛ لكن ذلك لا يكون من غير ثمن، يقول الله – جل وعلا-:(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [آل عمران:19].
العلم هو الذي أخرج إبراهيم –عليه السلام- من التّبعيّة لأبيه ليصبح هادياً له ومرشداً (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً) [مريم:43]. والثمن الذي يدفعه الأنبياء –عليهم السلام- وكل أولئك الذين يسيرون على منهجهم في الخروج على المألوف وإرساء قواعد جديدة للحياة -إن الثمن الذي يدفعونه هو القتل والإيذاء والاضطهاد والطّرد من الديار.
والحقيقة أن التفكير العميق والمنهجي هو الآخر يقوم بخلخلة ما يبدو متصلاً ومنسجماً، ويقوم بإيجاد الفراغات وفتح الفجوات فيما يبدو ممتلئاً ومتماسكاً، إنه يزرع روح التحديث في جسد التقليديّ والمستمر. وبذلك يلتقي نتاج الفكر بثوابت الوحي وحقائق العلم، أو قل: يعمل العقل، ويشتغل على قطعيّات الوحي ومسلمات العلم.
حيث تغادر بلدك بجسدك، فإنك تكون أمام فرصة حقيقيّة للتخلص من كل المفاهيم البالية والضغوط الاجتماعيّة الخاطئة، ومن كل الأهواء التي تُشبع بها أولئك الذين ما زالوا يقيمون في ذلك الوطن، وتُتاح لك فرصة أقل من هذه الفرصة حين تملك فضيلة التأبي وفضيلة التمييز بين الصواب والخطأ والحسن والقبيح، ولو كنت تعيش بين أهلك وفي مدارج صِباك. إنه الانفصال العقليّ والروحيّ الناتج من الامتلاء بالهدي الرّبانيّ: في كلتا الحالتين سيشعر المرء بالغربة، وبشيء من العُزلة والتفرّد، وسيواجه ضغوطاً وأزَمات لا يجدها أولئك المقيمون في أوطانهم، وأولئك المشتغلون بلقمة يومهم، الراضون بالفُتات والفاقدون للتّمييز. وقد قال عليه الصلاة والسلام: “بدأ الدين غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء”.
دين واحد بمفرده يحتفظ بنقائه واتجاهه وأهدافه بين عشرات الأديان والمذاهب والتيارات؛ إنه لشرف عظيم ومهمة صعبة. ومسلمون غرباء، يحاولون الاحتفاظ بنقائهم –أيضاً- ويعملون على إصلاح ما تفسده الجماهير العريضة. هؤلاء المسلمون طوبى لهم ثم طوبى!!
حين تغترب ببدنك أو بعقلك ومشاعرك فإنك تضع نفسك على رأس طريقين: أن تعيش على الهامش تجترّ آلام الغربة، وتبكي من الوحدة، وتبذل كل جهدك من أجل الاستمرار في الحد الأدنى من العيش تأكل وتشرب وتتكاثر وتتنفس، وإلى جانب ذلك تغرق في الحديث عن محاسن وطنك الذي فقدته ومساوئ البلد الذي حلَلْته، أو تغرق في ذكر مثالب الناس الذين يخالفونك في اتجاهك وانتمائك ورؤيتك للحياة. وتغرق في الحديث عن العامة والدهماء والغوغاء، وما أنعم الله –تعالى- عليك به إذ لم تكن واحداً منهم.
أما الطريق الثاني: فهو أن تنطلق من نعمة الخروج من الصندوق والتحرّر من قيود الاستكانة لما هو سائدٌ وطاغٍ. وحينئذ فستشعر أنك تملك ما لا يملكه غيرك من ثقوب النظر والقدرة على رؤية الأشياء من زوايا مختلفة. وستشعر أن في إمكانك أن تكون صاحب رسالة، تعيش من أجلها، وتعيش بها، وبهذا وحده يكون للغربة –بشقّيها- معنى، وتكون لها ميزة.
إن المسلم الملتزم والواعي بشجون عصره سيواجه من الآن فصاعداً المزيد من الشعور بالغربة، وإن عليه أن يعدّ نفسه للاستفادة من هذا الشعور كي يجعل منه وقوداً روحياً في حركة التحرير: تحرير الذات وتحرير الأمة وبناء المستقبل.
أمّة الإسلام –على كثرة عددها- غريبة بين الأمم، وأصالتها في غربتها ودورها المستقبلي في تقديم شيء للعالم يكمن في هذه الغربة. فكيف يمكن لها أن تقدّم هداياها للناس، وما طبيعة تلك الهدايا؟
في ظل الاتصال العالمي، وفي ظل سيطرة العولمة وانتشار مفاهيمها أخذت مشكلات العالم شرقاً وغرباً في التجانس والتشابه، أي يمكن القول: إن حاجة الإنسان في الغرب على المستوى الروحي والعقلي والأخلاقي لا تبتعد كثيراً عن حاجات مسلم يعيش في الشرق، لكنه ضعيف الالتزام وغارق في شؤونه اليومية. وعلى هذا فإننا يمكن أن نقول –مع شيء من التجاوز والتعميم- : إن ما يمكن أن يقدمه الداعية والمفكر المسلم لإخوانه في ديار الإسلام يقترب شيئاً فشيئاً مما يمكن أن تقدمه أمة الإسلام للأمم الأخرى مع بعض الخصوصيات والاستثناءات. وعلى هذا فإن هدايا الغريب المسلم تتقارب مع هدايا الأمة المسلمة. شيء مهم أن نعرف ماذا نهدي، لكن حتى نعرف ذلك فإن علينا أن نعرف شيئين: ما الذي لا نستطيع إهداءه، وما الذي يحتاجه أولئك الذين سنقدم إليهم هدايانا ومن حسن الطالع أن يكون -في أغلب الأمر- ما لا نستطيع إهداءه هو ما لا يحتاجه الآخرون.
من الواضح أننا لا نملك بإمكاناتنا وأوضاعنا الحالية أن ننشئ دورة حضارية عالمية ذات صبغة إسلامية تعقب الدورة الحضارية الغربية السائدة الآن، وتعكس هيمنة القيم والأفكار والاعتقادات ومناهج العمل والتفكير الإسلامية. نحن لا نستطيع هذا الآن لأننا لا نملك الوسائل والقوى المطلوبة لذلك.
أيضاً نحن لا نستطيع الآن أن نُحدث طفرة علمية وتقنية وبحثية تدفع بما هو متوفر عالمياً نحو الأمام، ونسدي بذلك للإنسانية خدمة تحسِّن في رفاهيتها واستغلالها لخيرات الأرض؛ لأننا لم نستوعب إلى الآن ما هو موجود ولا نسهم إلا على نحو محدود جداً في تطويره.
ونحن اليوم لا نستطيع أن نقدم نظاماً تربوياً أو تعليمياً أو إدارياً يتفوق على النظم الموجودة حالياً، لأننا لم نطور نظمنا القديمة، ولا استخدمنا الموجود بكفاءة. لكن في إمكان الفرد المسلم المتميز أن يقدم لأمة الإسلام أشياء مهمة في كل ما ذكرناه، إذا عرف أن (الغربة) تعني التفوق والتقدم على الصفوف، وليس الضعف والعزلة.
العالم الذي تبنيه العولمة اليوم، وتبشر به الرأسمالية والليبرالية يفتقر إلى رؤية تركيبية توليفية، يشعر الإنسان من خلالها بالاطمئنان إلى مصيره بعد الموت، وتوفر له في الوقت نفسه الإطار التوجيهي في حركته اليومية. ونحن الذين نملك هذه الرؤية.
وعالم اليوم مشبع بالوحشة والنفور واليأس والاستقلال الذاتي العدائي والعنجهية. وهو يحتاج حتى يتخلص من هذه الوضعية البائسة إلى من يقدم له قيم الأخوة والمباشرة والمؤانسة والتواضع والتضحية والتعاون. وهذا ما تؤكده المنهجية الاجتماعية الإسلامية.
عالم اليوم يستثمر أموالاً هائلة في السياحة والترفيه واللهو وكل ما من شأنه خدمة البدن. ولم يخطر في باله أن ينفق أي شيء في خدمة (الروح) وذلك لأنه أسلم قياده لثقافة لا تعرف عن الروح شيئاً، سوى أنهم يعدون (الخمر) مشروباً روحياً!! والمسلمون الملتزمون هم الذين يعرفون كيف يكون غذاء الروح، وكيف يُبنى الإشراق الروحي المسلمون مشغولون بأداء حقوق الله تعالى والبحث عن مراضيه، ويفهمون حقوق الإنسان والحيوان في إطار فهمهم لحقوق خالق الإنسان والحيوان وعلى هدي تعاليمه. أما حضارة اليوم فإنها تتحدث عن حقوق المرأة والطفل والعامل والسجين، كما تتحدث عن حقوق الكلاب والقطط ونظافة البيئة، لكنها لا تتحدث أبداً عن حقوق الله تعالى ولا تقيم لها أي وزن. ونحن نملك الرؤية الكاملة لتوجيه الحضارة في هذا الشأن. العالم الذي اتخذ من الصراع ناموساً للبقاء يملك ويكتسب الكثير الكثير من (العلم)، ويفقد مع الأيام ما تبقى لديه من (حكمة) عالم كثير علماؤه قليل حكماؤه. وما ذلك إلا لأنه لا يعادل غناه بالوسائل سوى فقره في الغايات. وأمة الإسلام وحدها هي التي تعرف الغاية من وجود البشر على هذه الأرض، كما يجب أن تكون المعرفة.
إن قارة (أوروبا) أسست الحضارة الحديثة، وما زال لها موقع متقدم في قيادتها، وهي تقدم الدليل تلو الدليل على قصور البناء الذي وضعت قواعده، وشيدت أركانه. وهل هناك دليل على ذلك أقوى من أن يستحي أي زعيم من زعمائها وأي رئيس من رؤسائها من أن يجري اسم (الله) على لسانه؟!
إن عالم اليوم لا يحتاج إلى التسامح فحسب، لكنه يحتاج أيضاً إلى من يدله على طريق الهداية، ويساعده على أن يقترب من الله تعالى شبراً أو ذراعاً، وهذا ما نملك القيام به.
هذه الوضعية تحملنا مسؤولية كبرى لأننا نملك فعلاً ما العالم في أمس الحاجة إليه.
لكن يجب أن نكون على وعي بأننا لن نستطيع أن نقدم للعالم على طبق من ذهب شيئاً نستخرجه من الكتب، ونسطره على الورق، ثم نذيعه في فضائية أو ننشره على شبكة (الإنترنت)، إننا لو فعلنا ذلك فحسب فإننا نكون كمن لم يفعل أي شيء.
إن القيم والأسس والمبادئ والمعاني التي لدينا، مهما كانت عظيمة وسامية فإن العالم لن يتقبلها إلا إذا تفاعلنا نحن معها أولاً، وقدمنا البرهان تلو البرهان على أن المنهج الذي استطاع إنقاذ أمة الإسلام وارتقى فعلاً بها، قادر على أن يفعل ذلك مع الأمم الأخرى. إن العالم يحب أن يرى شيئاً على الأرض، ولا يأبه كثيراً للكلام، فلنساعده على أن يرى.
هنا يأتي دور الغرباء، وهنا يتجسد جهادهم العقلي والروحي والسلوكي فهل نستطيع أن نجعل من (الغربة) هوية قادرة على بعث حركة ريادية داخل أمة الإسلام؛ كي نرى الأمة وقد أصبحت القوة العظمى التي تقوم بالدور نفسه على مستوى العالم؟ هذا ما نرجوه ونطمح إليه.
بقلم: د. عبدالكريم بكار