قصور العقل
كان من أشد ما يهلك بني البشر على مدار التاريخ احتقارهم لأشياء كبيرة، وتعظيمهم لأمور صغيرة، وقد كان العقل البشري من جملة الأشياء التي أخطأت الحضارة الحديثة في تعاملها معها؛ حيث إن الغرب بعد أن نفض يديه من إصلاح النصرانية ومن جعلها مصدراً يعتدُّ به لتغطية عالم الغيب عمدت إلى ( العقل ) تستنجد به في توفير مظلة روحية ومادية لكل شؤون البشر واحتياجاتهم .
واليوم ينسج على منوال الغرب في هذا العلمانيون الجدد الذين يشنون حملات منظمة ضد التدين والمتدينين، ويحاولون تفتيت مرجعية الوحي، واختزالها بطرق عديدة.
وأود هنا أن أوضح في مسألة « قصور العقل » النقاط الآتية:
1 – العقل البشري عقل محدود، وهو يوفر بيئة لنمو الدلالات والمفاهيم، كما أنه قادر على استخدام ما تنقله إليه الحواس في محاولته الوصول إلى بعض الأشياء المجهولة؛ لكن العقل غير قادر على الخوض في مسائل لا تتوفر له عنها معلومات جيدة؛ فهو لا يستطيع تحديد الغاية من الخلق: أي لماذا نحن هنا كما لا يستطيع سن تشريعات تأخذ بعين الاعتبار مصالح جميع الناس وأوضاعهم دون أن يقع حيف على بعض منهم.
أضف إلى هذا أنه لا يستطيع أن يخبرنا عن الأمور المهمة في حياتنا والأمور التافهة؛ حيث ليس فيه أبواب ندخل منها إلى مجالات كل منها.
والعقل البشري بعد هذا وذاك بنية يسهل خداعها ؛ فحين نزوده بمعلومات خاطئة فإنه يقع في الخطأ بسهولة؛ إنه عقل قادر على البحث في الأدوات والأشكال والأساليب وكل الأمور المحدودة؛ لكنه غير قادر على البحث في مصيره الذاتي.
وهو على مقدار ما يبدي من البراعة في التعامل مع ( الكم ) يبدي القصور في التعامل مع ( الكيف ) أو ما يسمى ( الصفات ).
وتجاهل كل هذه الأمور المحددة لقدرة العقل على العمل يؤدي إلى حدوث أخطاء فاحشة تتعلق بمصير الإنسان على هذه الأرض.
2 – العقل البشري ليس بنية مكتملة متميزة منحازة معزولة عن السياقات المعرفية أو عن المشكلات والقضايا التي يعالجها أو يشتغل عليها.
وإنما هو إمكانات ومفاهيم وبدهيات ملتبسة بالمعطيات المعرفية ومتفاعلة معها ، كما أنها ملتبسة بالمشكلات الوجودية المختلفة، ومتفاعلة معها أيضاً وهذا يعني أننا ونحن نحاور نؤثر ونتأثر، كما أننا حين نعلِّم نتعلم، كما أن عقولنا تتأثر بالمعلومات التي تعالجها والمشكلات التي تسعى إلى حلها. وهذا كثيراً ما يؤدي إلى اضطراب العقل وتراجعه عن كثير من مقولاته وطروحاته؛ ولهذا فإنه ليس هناك أي ضمان لاطِّراد تقدم أي مفكر في خط واحد مهما كان ألمعياً ومتمكناً من الأفكار والمفاهيم التي يتبناها، والأمثلة على هذا أكثر من أن تحصى، هذا ( هوسرل ) بعد أن كتب ألوف الصفحات في استجلاء علم ( الظاهريات ) محاولاً الوصول إلى البُنى الموضوعية للماهيات المحضة نراه يتحول من رجل يبشر بمنهج جديد إلى واعظ يحذر أوروبا من المخاطر التي تنتظرها إذا هي استمرت في منهجيتها العلمية والفكرية ؛ بل إنه يهاجم ( العقل ) ويتساءل في محاضرة له عام 1935م: هل استقال العقل وفقد دوره في الحياة، أم أنه خلافاً لذلك كشف عن وجهه الحقيقي الانتهازي الماكر والنفعي؟
هذا يعني أن تفويض كل شؤون الحياة للعقل وسدنته يشتمل على مخاطرة كبرى، وليس هناك أي حل سوى العودة بالعقل إلى وظيفته الأصلية في الحركة ضمن أطر ومسلَّمات كبرى يؤمنها الوحي بما يصوغه من أصول ومبادئ، وبما يرسمه من خطوط عريضة لترشيد حركة الإنسان وعلاقاته.
3 – العقل البشري أبدع حلولاً كثيرة لمشكلات الناس، وأسهم في توفير الراحة لهم، وفي تخليصهم من الكثير من أشكال العناء، وهذا موضع تقدير منا جميعاً، ولكن علينا أن نقول: إن إبداعات العقل أوجدت مشكلات كثيرة مثل تلوث البيئة ومخاطر الطاقة النووية وسيطرة الآلة على حياة الإنسان وفشو أمراض الحضارة …. وعقولنا غير قادرة على إبداع الحلول للمشكلات التي أوجدتها؛ إنها تكشف دائماً عن مساحات فاصلة بين وجود المشكلات والقدرة على حلها؛ وما ذلك إلا لأن منتجات العقول تدخل في تعقيدات وملابسات يعجز العقل عن فك رموزها والتحكم بها . وماذا يمكن للعقل أن يفعل لشخص أدمن الجلوس إلى ( التلفاز ) واستسلم لرغباته فأضاع الكثير من واجباته؟
وهذا يعني أن الاعتماد على العقل في تصحيح مسار البشرية بعيداً عن القيم والمبادئ التي يوفرها الوحي مجافٍ للصواب وباعث على خيبة الأمل والخذلان.
4 – أكثر الناس استخداماً لعقولهم واستثماراً لها هم الفلاسفة؛ حيث إن صياغة المفاهيم بواسطة العقل هي شغلهم الشاغل؛ ومع ذلك فإن كل المشتغلين بالفلسفة يعترفون أنه ليس من شأنها أن تمنحنا اليقين، أو تحدد لنا موطن الداء في قضية من القضايا، أو تصف لنا الدواء، أو تقدم لنا مفاتيح حلول المشكلة من المشكلات، إنها نشاط فكري لا يتوقف عن إثارة الأسئلة، وإعادة صوغ المشكلات؛ إنها أشبه بمسلسل ليس له نهاية، وهي دائماً في حركة مستمرة من إشكال إلى إشكال أعمق وأكثر تعقيداً من سابقه.
ولست أقصد هنا إلى الإزراء بالفلسفة؛ وإنما أريد أن أقول: إن الناس بحاجة إلى اليقين وإلى أطرٍ مهما تكن واسعة إلا أنها في النهاية موجودة وواضحة.
وتلك الأطر تضع حداً لكثير من الأسئلة التي يطرحها العقل، كما ترشد إلى المسار الذي يمكن أن يسلكه في الإجابة على الأسئلة المطروحة.
وهذه الأطر لن يجدها الناس إلا في الدين الذي جعله الله جل وعلا مستوعباً لكل الخير الذي جاءت به الأديان السابقة.
5 – العقل البشري عاجز عن التنبؤ الدقيق بما يمكن أن يقع في المستقبل؛ وقد حاول بعض مفكري أوروبا أن يستعينوا على معرفة ما يمكن أن يقع في المستقبل ببلورة رؤية شاملة للكون: بنيته، وعناصره، ونواميسه، على قاعدة:
إذا أردت أن تعرف ما سيحدث في المستقبل فانظر إلى ما حدث في الماضي.
والحقيقة أنه لا يعرف الغيب إلا الله تعالى، وأن عقولنا تستطيع أن تتوقع حدوث أمور صغيرة في المستقبل القريب.
أما توقع الأحداث الكبيرة في أزمنة متباعدة فهذا ما يكون غالباً غير ذي جدوى، ويظل في دائرة الظن أو الوهم؛ وما ذلك إلا لأننا عاجزون عن معرفة كل التغييرات التي ستقع في المستقبل، والتي ستؤثر في نوعية الأحداث والتحولات التي يمكن أن تقع.
أما قراءة التاريخ لاستخراج النواميس والسنن الكونية منه، فإن عقولنا تكشف عن قصور مدهش في هذا الجانب؛ والسبب في ذلك أن معرفتنا بالأسباب الحقيقية التي أدت إلى ولادة أحداث التاريخ الكبرى تظل دائماً معرفة ناقصة.
وحين نحاول حصر أسباب الأحداث الكبرى، ونوفق في ذلك فإن المشكلة التي تنتظرنا تكمن في تحديد وزن كل سبب وحجم تأثيره في وقوع تلك الحوادث، لكن حين نتأمل سنن الله تعالى في الخلق كما وردت في نصوص الكتاب والسنة، فإن دائرة خطئنا تضيق، ودرجة اليقين لدينا تكون أكبر.
6 – لا يملك العقل البشري أي عتاد حقيقي يمنعه من التورط في صناعة الخرافة وقبولها. ولست أبالغ إذا قلت: إن البنية العميقة لعقول معظم الناس هي بنية خرافية ؛ حتى كأن الخرافة هي الأصل لديهم؛ إذ بمجرد حدوث ضعف في التثقيف الجيد أو وقوع الناس في حالات استثنائية من الشدة والكرب تطفو تلك البنية على السطح.
لو تساءلنا: من أين تأتي قابلية عقولنا للسقوط في مستنقع الخرافة؟ لوجدنا أننا تجاه حالة لا تخلو من الغموض؛ لكن يبدو لي أن مصدر ذلك يعود إلى أمرين جوهريين:
الأول: هو جهلنا بمعظم ما يقع في الوجود من أحداث؛ فإذا قلنا: إنه يقع على الكرة الأرضية في الدقيقة مئة مليون حدث، فإن الواحد منا قد لا يشاهد منها سوى خمسة أو عشرة؛ والباقي يقع بعيداً عن النظر، أضف إلى هذا أن خبرتنا بما حدث في الماضي أيضاً محدودة جداً.
ولدى الناس إحساس بأن هناك عوالم لا تغطيها حواسنا؛ ونحن المسلمين مثلاً نعتقد بوجود عالميِ الجن والملائكة؛ فإذا ما حُدِّثنا عن حصول بعض الأمور الخارقة أو غير المألوفة، فإن عقولنا كثيراً ما تتقبلها على أنها تنتمي إلى عالم من العوالم التي لا يراها الإنسان، أو تتصل بالأحداث التي لم يشاهدها، وتكون تلك الأمور من الخيال أو من الكذب المحض.
الثاني: هو أن عقولنا تتقبل الأخبار التي نسمعها ما دامت تقع في دائرة المعقول، وترفضها إذا خرجت عن تلك الدائرة؛ فإذا ما قيل لنا: إن الناس في البلد الفلاني رأوا شخصاً يحمل عشرة قناطير على ظهره، فإننا نرفض ذلك، ونعده من قبيل الخرافة؛ لأنه يقع خارج دائرة المعقول بالنسبة إلينا؛ لكن المشكلة هنا أن الذي يرسم دوائر المعقول وغير المعقول في غالب الأمر ليس العقل، وإنما الثقافة والخبرة؛ فإذا ما قال لك شخص: أعطني ألف دينار لأتاجر لك به، وستربح مائة ألف في آخر السنة فإن القناعة بذلك وعدم القناعة به لا يقودان إلى العقل وإنما إلى الخبرة والمعرفة بالتجارة وأحوال السوق في تلك السنة؛ فصاحب الخبرة ربما يقول لك: لا تصدق ذلك؛ فأمهر التجار لا يستطيع اليوم مضاعفة رأس ماله مرتين أو ثلاثاً في العام فضلاً عن أن يضاعفه مئة مرة؛ لكن يأتي شخص آخر عديم الخبرة، أو له خبرة مختلفة بأحوال السوق، فيقول: كلام ذلك الرجل معقول، وقد حدث مثل ذلك في العام الفلاني مع الشركة الفلانية، ولا مانع من أن يحدث الآن، وهكذا فمضاعفة رأس المال مئة مرة في السنة تعد من قبيل المعقول في خبرة شخص معين، وتعد من قبيل الخرافة والاحتيال في خبرة شخص آخر؛ ولهذا فطالما انقسمنا تجاه بعض الأخبار والأحداث إلى فريقين: فريق يقول:
هذا معقول، وفريق يقول: هذا غير معقول.
وهكذا فقد ظُلم العقل مرتين مرة من قِبَل المشعوذين والمخرِّفين الذين ألغوا دور العقل، ومرة من قِبَل الذين حرموا نعمة الهداية بأنوار الوحي، فألهوا العقل، وطلبوا منه أموراً ليس من شأنه الاشتغال بها.
والله ولي التوفيق.
أ.د. عبدالكريم بكار