التأسيس الفكري (2)
لا يجادل أحدٌ في الإمكانات الهائلة التي زودّ الخالقُ – عزَّ وجل – بها أدمغةَ البشر، فهي ثروة كبيرة، لا يعرف معظمُ الناس كيف يستثمرونها، أو يديرونها، حتى إن بعض البحوث والدراسات تشير إلى أن ما استُخْدِمَ من إمكانات العقل البشري؛ لا يزيد عن 1%..
لكن -مع هذا كله- هناك حقيقةٌ جوهريةٌ، ينبغي ألا تغيب عن أذهاننا، وهي أن العقل البشري مفطور على العمل، بوصفه أداة في يد المبادئ الكبرى، وهذا ما يشير إليه المغزى الذي نستشفّه من قول الله تعالى:
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [1].
حيث إن الله -سبحانه- أرسلَ الرسلَ وأنزل الكتبَ؛ من أجل دَلالة الناس على طريق الرشاد، ومن أجل تمليكهم الغايات الكبرى والمبادئ العظمى، التي يحتاجون إليها في فهم الوجود، وفهم دورهم في هذا الوجود، وفي علاقتهم به..
ومن غير تلك المبادئ؛ فإن أذكى العقول، وأعظم العبقريات؛ تجد نفسها مرتبكة في فهم الحياة، وفي التحرك فيها.
هذا الكلام لا نقوله من باب الدعاية أو الترويج لضرورة الالتزام بالمنهج الرباني الأقوم، ولو أننا قلناه من أجل ذلك؛ فلا غضاضة علينا فيه، كما أننا لا نريد من ورائه الحطَّ من قيمة العقل والإزراء به؛ وإنما نريد توضيح العلاقة التي تربط العقل بالوحي.
لو رجعنا إلى التاريخ لوجدنا أن هناك مئات الألوف من العقول الذكية والجبارة، التي نظرت في غاية وجود الإنسان على هذه الأرض، وفي مصيره بعد الموت، كما نظرت في طبيعة الخير والشر، وفي الحقوق المدنية التي تترتب على اجتماع الإنسان بأخيه الإنسان، وكانت النتيجة مخيبة للآمال! أقوالٌ وآراءٌ وتشعيباتٌ لا تحصى، لكن يضرب بعضها بعضاً، وهي -جميعاً- تخبرك عن الاضطراب والضياع والحيرة…
إذا أردت أن تعرف صدق ما أقول؛ فانظر في كتب الفلاسفة، القديم منها والحديث، لترى العجب العجاب.
انظر -مثلاً- ما كُتب في مسألة الحرية الشخصية، وانظر ما كتب في علاقة العدل بالحرية، وفي مسائل الإدارة، ومدى مسؤولية المرء عن أفعاله، وعلاقة الغايات بالوسائل.. وستجد أن تلك العقول الكبيرة، التي بحثت في القضايا الكبرى؛ لم تستطع حسم أي نزاع، ولا الوصول إلى أي مفاهيم صلبة أو قاطعة، وقد انتهى الأمر ببعض الكتاب المعاصرين إلى اليأس من الوصول إلى اليقين، فجعل يزعم أن صحة العقل ليست الوصول إلى الحقائق، وإنما هدم المقولات الزائفة، ومحاولة إنتاج مفاهيم جديدة تلوكها ألسنة الجيل اللاحق!!
إن مما يدهشني ذلك التكامل الواضح بين الوحي والعقل، حيث إنك تجد أن ما لا يتغير بتغير الأزمنة والأمكنة؛ جاء في الشريعة السمحة مفصلاً غاية التفصيل، وهذا ما نجده على نحو جلي جداً في العقائد والعبادات، حيث لا يجد المسلم نفسه مضطراً إلى أداء فريضة الحج مرتين في العمر، أو إلى أداء صلاة المغرب ركعتين أو أربع ركعات…
إن التفصيل الدقيق الواسع في مسائل العبادات يعدُّ إعلاناً صريحاً بعدم الحاجة إلى تدخل العقل وإلى الاجتهاد؛ حيث لا دواعي تدعو إليه، ولهذا قالوا: إن العبادات تعبدية.
أما ما كان يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة؛ فقد جاء في الشريعة مجملاً، حيث تجد في أحيان كثيرة، سوى بعض المبادئ الكبرى والتوجيهات الهادية، وذلك مثل تنظيم الشأن السياسي والإداري للدولة، ومثل النظم التي تحتاجها الحياة اليومية والعلاقات الدولية…
وذلك الإجمال دعوةٌ صريحة للعقل؛ كي يمارس دوره، ويُظهر إبداعاته، في إطار التوجيهات العامة والخطوط العريضة.
وهذا الإجمال مظهر من مظاهر رحمة الله -تعالى- بعباده، ومظهر من مظاهر يسر الدين وسماحة الشريعة، وذلك لأن التفصيل في أمور تختلف، من عصر إلى عصر، ومن مكان إلى مكان؛ يوقع الناس في حرج عظيم، يدعوهم إلى التفلُّت، والخروج عن تعاليم الإسلام عامة!
إن العقل ظُلِم من جهتين:
الأولى: فئة عريضة من المثقفين، الذين يدَّعون العقلانية، والتنور، والموضوعية، واحترام العقل، والانفتاح على الثقافات…
إن تلك الفئة أو الشريحة حمَّلت العقل كل الأعباء، وأرادت منه أن ينوب عن الوحي، وأن يمنح الثوابت، ويبحث فيما وراء المادة.. فظهر عجزه، واضطربت طروحاته!
أما الجهة الثانية: فالمنتمون إليها مجموعات مختلفة، منهم الخُرافيُّون، الذين يعتقدون معتقدات بعيدة عن العقل والنقل والخبرة البشرية، وما تراكم من تجارب الأمم…
ومنهم عبيد المعلومات والمعطيات والأرقام والأخبار والمقولات الشائعة، الذين لا همَّ لهم سوى إغراق سامعيهم بفيض من الكلام المتناقض والملفَّق!
إنهم غير مستعدين لاستخدام عقولهم، والتأمل فيما يقولونه، وغير مستعدين للنظر في طبائع الأشياء، وسنن الله -تعالى- في الخلق، وما جرت به العادة…
إن أزمة علاقة كثير من الناس بعقولهم أنهم يريدون من تلك العقول أن تمنحهم نُقَطاً ثابتة، ومرجعيات صارمة، وما دَرَوْا أن العقل حين يفكر في أمر من الأمور، كالبطالة، أو الاستبداد، أو أي مشروع تجاري…؛ ينتج الأفكار والمقولات والمعايير، ويعيد -في الوقت ذاته- تنظيم طروحاته، ورؤاه، ومحطّاته، وانطباعاته، إنه بعبارة أخرى يظل في حالة من الاكتشاف المستمر لذاته، وهو بذلك كثيراً ما يسفِّه نفسه، وينقض غزله! فكيف يمكن الاعتماد عليه في بناء تصورات نهائية عن الحياة والأحياء؟!
إذا أردنا لعقولنا أن تعمل بكفاءة؛ فإن علينا أن نختار لها المجالات الملائمة لها، وأن نزودها بالمعارف والمعطيات الضرورية والمطلوبة لعملها، وإلا فإن لنا أن نتوقع أن تنتج العقول الذكية أفكاراً غبية، وهذا سيكون موضوعاً محزناً للقراءة!!
ــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة فاطر: 24.