التأسيسُ الفكري (8)
حين يتفتح وعيُ الواحد منا على هذه الحياة يكونُ أشبهَ بمن يحاولُ معرفةَ ما بداخل صندوق مغلق، ويقضي بعد ذلك عُمُرَه وهو يحاولُ استيعاب ما في داخل ذلك الصندوق، ويكشفُ في آخر المطاف -وقبل أن يودع هذه الحياة- أنه لم يعرفْ إلا القليل، كما قال سبحانه: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء: 85]، كما أن كثيراً مما عرفه ليس موثوقاً بالقدر الكافي.
ومع كل هذا فليس أمامنا سوى خيار واحد؛ هو متابعةُ البحث والتنقيب عن الحقائق، ثم العمل على ربطها وتحليلها واستخلاص المفاهيم الكبرى والملاحظات الذكية من كل ما يصبح في حوزتنا.
من المهم دائماً أن يعرفَ الباحثون نقاطَ ضعفهم، وأن يعرفوا حدودَ اجتهاداتهم، وطبيعة الرؤى والآراء التي يتوصلون إليها، ومدى قربها من الحقائق المطلقة.
ولعلي أشير هنا إلى بعض ما يساعد على الوصول إلى الحقيقة عبر الحروف الصغيرة الآتية:
الثاني: هو أننا -مع وفرة المعلومات- لا نشعر أننا بلغنا برد اليقين، أو الطمأنينة المعرفية، ولا نشعر أننا فعلاً عرفنا على وجه جيد مهماتِ الداعية ومسؤولياته! لماذا يحدث هذا؟
إن الكم الهائلَ من الأفكار والمعلومات والمقترحات لا يسيرُ في خط واحد، ولا ينطلقُ من مسلمات واحدة، فهذا باحثٌ يطالب الداعيةَ بأمور ومواقف، لا يطالبُه بها باحثٌ آخر، وتجد باحثاً ثالثاً يُخطّئ الدعاة إذا قاموا بما طالبهم به باحثون آخرون… وهكذا فكثرةُ الأفكار تزيد في حيرتنا، وتجعلُ كل ما نقوله كلامًا مكرورًا سبقنا إليه غيرُنا.
هذا يعني: أن الحقيقة لا تزداد مع الأيام تألقاً كما يفترضُ بعضُ الباحثين؛ لأن العلوم الإنسانية لا تتقدم كما تتقدم العلوم الطبيعية؛ فعلماءُ النفس مثلاً يصلون إلى إجابات جيدة لكثير من الأسئلة، ولكن تلك الإجابات نفسها تطرح تساؤلات جديدة، تحتاج الإجابة عنها إلى بحث جديد وهكذا… الذي لا يعرف هذه الإشكاليةَ يعتقدُ أن الباحثين اليوم عباقرةٌ ومبدعون، أو يعتقد أنهم أقرب إلى الغباء؛ لأنهم لم يحلوا أي مشكلة من المشكلات.
إذن كل المعلومات المتوفرة لن تمنحنا اليقين، ولن تجعلنا نقبض على الحقائق، وإنما ستكون بمثابة الأنوار الكاشفة التي تضيء المكان، وعلينا أن نبصر ونفكر ونعتقد ونرجح، كما كان يفعل السابقون، لكن ربما كانت المساحات التي نراها أوسع من المساحات التي رأوها، وربما نكون قد تخلصنا من بعض الأوهام التي سيطرت عليهم بسبب ضعف تنظيم المعرفة في زمانهم، وبسبب ضآلة ما تراكم منها لديهم؛ لكن هذا لن يعصمَنا من أن نقع في أوهام جديدة، أو نقع في أوهام وقع فيها من سبقنا.
2 – شيءٌ مهم للغاية أن نحدّد المصطلحات، وأن نوضّح التعريفات، وذلك في كل المسائل التي نتحدث عنها، إذ إن الحفرَ المعرفي من غير ذلك قد يكون في بعض الأحيان جهدًا ضائعًا؛ لأننا لا نعرف بالضبط عن أي شيء نبحث. لو فرضنا أننا حاولنا كتابةَ عدد من البحوث عن العوامل التي تساعد الأمة على النهوض، أو تساعدُها على تحقيق النصر، فإن علينا أولاً أن نقول: ما تعريف النهضة؟ وما الذي نريده بكلمة النصر؟ شباب كثيرون يسألون: متى ستنتصر هذه الأمة؟ وأقول لهم: عن أي نصر تسألون؛ هل تسألون عن النصر العسكري والسياسي أو الصناعي؟ أو تسألون عن النصر في ميادين الزراعة أو التربية أو التعليم أو وحدة الأمة…؟؟
وحين ألقي هذه الأسئلةَ ألمح في وجوههم نوعاً من الحيرة والدهشة؛ إذ انتقلوا من تصور واحد للنصر يتمثل في تحرير فلسطين، أو طرد الأمريكان من أفغانستان إلى تصور معقد غاية التعقيد.
وألاحظُ أحياناً وكأن السائلَ قد تراجع عن سؤاله؛ لإدراكه أن الجواب عنه قد يحتاج إلى كتاب أو كتب.
مسألة التعريفات ذات أهمية بالغة؛ لأن التعريف يقدِّم في بعض الأحيان تلخيصاً لرؤى كبرى ومعقدة، وكلنا يعرف الجدل الذي أثاره مصطلح (تقدُّمي) ومصطلح (رَجْعي) والجدل الذي يدور اليوم حول مفهوم (المواطن الصالح) و(الإنسان الحر) و(الإنسان المعاصر)….
الناس يهرُبون عادةً من الحديث في التعريفات والمصطلحات وكل المفاهيم المحدَّدة؛ لأنهم يكشفون قصورَهم وعجزهم حيالَ بلورتها على النحو الصحيح، وأحياناً يفرّون لأن وضوحَها يُحمِّلهم مسؤوليات وتبعات أخلاقية وقانونية، لا يرغبون في تحملها، وهذا ما يفعله اليهودُ في فلسطين تجاه توصيف وجودهم في الأراضي الفلسطينية.
وهذا ما تفعله أمريكا تجاه تعريف (الإرهاب) وتجاه توصيف الوضع القانوني والحقوقي للمعتقلين في (جوانتنامو)، ولهذا فإنك لا تلحظ أي تقدم في هذه المسائل. وقد كان علماؤنا السابقون على وعي شديد بهذه المسألة، لهذا فإنهم في كثير من أبواب الفقه وغيره كانوا يعرِّفون الشيء في اللغة والاصطلاح.
إن التعريفات والمصطلحات والمفاهيم هي بداية الانطلاق في أي بحث علمي جاد، ووضوحها هو أساس للتقدم نحو إدراك الحقائق ونحو بناء الأرضيات المشتركة بين المختلفين والمتنازعين، ولهذا فإنها حَرِيَّة بكل عناية واهتمام.
للحديث بقية…