صياغة القوة – 1
لاشك أن الوعي المسلم يمر بمرحلة عصيبة في هذه الأيام دون أن يرى سبيلاً عمليًا للخروج من الأزمة. في فلسطين شعب بأكمله يعاني من الجوع والذي والقهر والقتل اليومي وصعوبة الحركة وكسب الرزق.. ويتعرض لبنان للتدمير الشامل حيث يتم حرق كل شيء وتهجير الناس، وتعريضهم أيضًا للجوع في بلد تعوّد كثير من العرب أن يأكلوا من خضاره وفاكهته! هبَّ المسلمون كما يفعلون في كل مرة: مظاهرات في كل مكان، وهتافات واحتجاجات واتهامات، وفضائيات تعجّ بكلام المحللين السياسيين… والنتيجة: جمع شيء من المال لمواساة بعض المنكوبين.
لكن اليهود حاصروا الشعبين، ومنعوا دخول أي شيء. وقد اجتمعت أموال جيدة لدى جامعة الدول العربية، وهي عاجزة عن إدخالها إلى المحتاجين إليها داخل فلسطين!! وضع صعْب للغاية، ومعظم الناس عاجزون عن فهمه واستيعابه، وعاجزون عن عمل شيء يشفي الصدور، ويخفف من الكروب.
لعلي هنا أضع بعض العلامات في محيط هذه الحالة المأساوية، وذلك عبر النقاط الآتية:
1) هناك حقيقة قديمة وراسخة، نقول: حين يصطدم طرفان، فإن كل واحد منهما يستخدم أعظم ما لديه من قوة ونفوذ في سبيل تحقيق الغلبة، وفي ظل تحالف الغرب مع اليهود وسكوت قسم من العالم على ما يجري يجد القسم الثالث –وهم العرب والمسلمون- أنفسهم عاجزين عن عمل أي شيء. هذه الحقيقة يجب أن تكون واضحة تمام الوضوح، فالرادع الأخلاقي اليوم في أضعف حالاته، واليهود يخافون من أن يسجل أعداؤهم أي نصر حقيقي عليهم؛ لأن هذا يعني تصدع المجتمع اليهودي، وربما انهياره، لأن معظم أبناء ذلك المجتمع من جنسيات أخرى، وباستطاعتهم العودة إلى أوطانهم الأصلية في أي وقت، ولهذا فإن قادة اليهود في فلسطين يتبعون مع أعدائهم سياسة: “اسحق الذبابة بالمطرقة”، وهذا ما يفعلونه اليوم في فلسطين ولبنان.
2) الأزمات لا توجد مشكلات جديدة، بمقدار ما تعبِّر عن مشكلات قديمة، أي نتيجة مشكلات متراكمة، كما أنها تجلو للناظرين ما كان خافيًا عليهم من أمرهم، حين تأتي موجة شديدة من الحر، فإن بعض مرضى القلب يموتون؛ لأنهم لا يتحملون تلك الموجة، وليس لأنها أوجدت لديهم مشكلة جديدة، وهكذا نحن اليوم. حين نشرت بعض الصحف في الدنمارك وغيرها رسومًا تسيء إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- هبّ العالم الإسلامي عن بكرة أبيه، وأظهر من نبل المشاعر ومن الولاء شيئًا مشرفًا وباهرًا، وحدثت مقاطعة واسعة للدنمارك، والآن هدأت العاصفة –وهذا طبيعي- ولم يبق منها إلا الأعمال التي تم تأسيسها من أجل المستقبل أو من أجل مواجهة أزمة جديدة حين نتعرض لأزمة خطيرة نتساءل: أنحن فقراء أم أغنياء؟ أنحن مترابطون أم متفرقون؟ أنحن أقوياء أم ضعفاء؟ أنحن أعزة أم أذلة؟…. وتأتي أجوبة لا حصر لها، وكثير منها متناقض. والجواب هو: أننا فقراء وأغنياء في آن واحد، كما أننا أقوياء وضعفاء أيضًا… وهنا تخطر في بالي المقولة الذائعة في بعض الأوساط الشعبية، عن المزارع والفلاح، وحالهما في الفقر والغنى، يقول الناس: الفلاح يعيش فقيرًا، ويموت غنيًا.
وهم يشيرون بذلك إلى أن الفلاح يمتلك أرضًا، قد تساوي الملايين، لكنه يعيش على الكفاف بسبب أن الأرض لا تعطي من الإنتاج ما يتناسب مع قيمتها المرتفعة. هل ذلك الفلاح فقير؟ نعم لأنه –حسب الظاهر- مرتبك في تدبير قوت يومه. هل هو غني؟ نعم لأنه يملك أرضًا تساوي الكثير. هل يصحّ إعطاؤه من الزكاة؟ قد يقول الفقيه: مادام لا يملك النصاب، فإنه يصح إعطاؤه منها. والأرض التي في حوزته هي بمثابة المصنع، أو عتاد المهنيين… هذا هو وضعنا تمامًا، وهذا هو وضع الكثير من دول العالم النامي. وعلى مدار التاريخ كانت الدول التي تعاني من التخلف تملك الإمكانات والثروات والمواد الخام، لكنها تجد نفسها عاجزة عن استغلالها على النحو الأمثل.
3) هل نستطيع بعد هذا أن نقول: إن المشكلة التي تعاني منها أمة الإسلام لا تتمثل في أنها لا تملك المعطيات، بل تتمثل في أنها لا تملك إدارة المعطيات التي في حوزتها؟ وهل نستطيع القول: إن زماننا لا يعبأ كثيرًا بالقوة الكامنة، ولا يُعدّ ذلك شيئًا خطيرًا، وإنما يهتم بما تملكه الأمم من أدوات وأساليب تستخدمها في إخراج تلك القوة من مكمنها لتصبح شيئًا ملموسًا، وذلك لأن التقدم الحضاري يتمثل أساسًا ليس في إيجاد ما ليس موجودًا، وإنما في الاستفادة من الموجود عن طريق التصنيع والتطوير والتوجيه والتركيز… وإن قارة إفريقية تقدم ألف دليل على صحة ما نقول، كما تقدم دول محدودة الثروات والإمكانات مثل اليابان وسنغافورة واليهود في فلسطين ألفًا آخر من الأدلة على ذلك.
إذن نحن في حاجة إلى أن نكفّ وقبل كل شيء عند التحدث عن الإمكانات الهائلة التي لا نعرف كيف نستفيد منها، ونتّجه عوضًا عن ذلك إلى الحديث عن كيفية الاستفادة من تلك الإمكانات في خدمة وجودنا وقضايانا وحل مشكلاتنا، وإذا لم نفعل ذلك، نستشعر بالمزيد من خيبة الأمل والمزيد من مرارة الذل والإنكسار.