القوى الناعمة
أشعر أن العام المنصرم قد شهد ترسخ قناعة مهمة جداً, تلك القناعة هي أهمية (( القوة الناعمة)) في التأثير في الآخرين وتحقيق مصالح البلد، ويعني هذا المصطلح الذي تم ابتكاره في العقد الأخير من القرن المنصرم أن تمتلك دولة من الدول قوة روحية ومعنوية من خلال ما يتجسد في سلوكها وأوضاعها من أفكار ومبادئ و أخلاق ومن خلال التقدم في حفظ حقوق الإنسان وفي نمو ما لديها من ثقافة وفنون… إن الدولة التي تكون متفوقة على محيطها في هذه المسائل تستغني في معظم الأحيان عن
( القوة الخشنة ) بل تستغني عن استخدام “سياسة العصا والجزرة” وما ذلك إلا لأنها بلغت حالة من التمكن الحضاري والسمو الأخلاقي جعلتها نموذجاً يقتدي، فتصوغ ما يخدم مصالحها من رغبات الآخرين عن طريق الجاذبية, قد يقول قائل: هذه صورة مثالية لا تتوفر لدى أي دولة ، وأقول: إن العولمة تغيِّر ثقافة العالم وسلوكيات كثير من البشر عن طريق صناعة رغباتهم، وإن منتجات هوليود والمطاعم الأمريكية تقوم بنشر الثقافة الأمريكية عبر العالم، وهذا شيء لا جدال فيه.
إن فشل أمريكا في تمرير مشاريعها الاستعمارية في العراق وأفغانستان عن طريق استخدام القوة الخشنة عزز الاعتقاد على مستوى العالم بنجاعة استخدام القوة الناعمة في تحقيق المصالح، وإن ما حدث في ( تونس) خلال الأيام الماضية يُثبت هذه الحقيقة، ولا سيما إذا قارناه بما يجري في ( الصومال) حيث لا يختلف قتل الإنسان عن قتل الذبابة، والنتائج الناجمة من كل ذلك هي المزيد من المآسي والإنهاك لكل مكوِّنات البلاد !
إن في إمكان المراقب أن يلاحظ ترسخ القناعة بجدوى استخدام القوة الناعمة لدى تيار كبير، ولدى دولة ناهضة، أما التيار، فهو التيار الإسلامي حيث نلاحظ وجود نبذ قوي لكل من يستخدم العنف من أجل تغيير وضع سياسي أو تلبية مطالب معينة أو القضاء على منافس, ونحن نعتقد أن قناعة الصحويين وغيرهم بعقم استخدام القوة الخشنة سوف تقوى في هذا العام وفي الأعوام القادمة. أما الدولة التي تحقق مصالحها عن طريق استخدام القوة الناعمة فهي تركيا، وبما أن انجازات الحكومات ووسائلها تظل سهلة المشاهدة، فإننا نستطيع أن نلمح استخدام تركيا للقوة الناعمة في الكثير من الأمور، وقبل أن أتحدث عن بعض ما قامت به على الصعيد الإقليمي أود أن أقول: إن استخدام تركيا للقوة الناعمة هو صدى للنجاح الاقتصادي الهائل الذي حققته وللتقدم الثقافي والحقوقي… إنه باختصار صدى للشعور بالثقة والشعور بوجود فراغ سياسي في المنطقة. ويمكن أن نرصد بعض ألوان استخدام تركيا للقوة الناعمة في الآتي:
1- إلغاؤها لتأشيرات الدخول مع عدد من الدول، مثل لبنان وسوريا والأردن واليمن، مما يساعد على تدفق السائحين والعمال والتجار، ويسهل انتقال البضائع و رؤوس الأموال في نهاية المطاف.
2- موقف شجاع في مناصرة غزة وموقف شجاع تجاه اسرائيل
3- انتشار الشركات التركية في طول العراق وعرضه، مما يؤمن لها نفوذاً اقتصادياُ وثقافياً قوياً، ومرحَّباً به.
4- التوسط بين الفرقاء اللبنانيين وغيرهم.
5- وقَّعت تركيا عقوداً ببناء خط أنابيب بقيمة أحد عشر مليار دولار لتجاوز الأراضي الروسية وتمرير الغاز العراقي إلى أوربا.
6- إطلاق قناة فضائية تبث باللغة العربية من أجل بناء صورة ذهنية جديدة لدى المشاهد العربي عن تركيا المستقرة والظافرة والطامحة.
إن نبينا – صلى الله عليه وسلم- أول من استخدم القوة الناعمة في تغيير المحيط ومغالبة الأعداء حيث أمكن تغيير معتقدات واتجاهات جزيرة العرب – وهي أكبر من أوربا- من خلال القدوة والدعوة والرحمة، مع استخدام محدود جداً للقوة الخشنة حيث لم يخسر المسلمون في معاركهم، إلا نحواً من ثلاثمائة شخص، ولم يصل قتلى الكفار إلى 1200 شخص!
فهل بدأ وعي جديد في التأثير وفي التغيير؟
أظن ذلك. د. عبد الكريم بكار