لماذا نختلف؟.
من سنن الله تعالى في الخلق ما نلاحظه لدى الكائنات الحية -على اختلاف أحجامها- من السعي الدائب إلى التفرُّد والاستقلال الذاتي، وكأن في ذلك حماية لذلك الكائن من الاندثار وفقدان مسوّغ الوجود، لكننا نلاحظ أيضًا أن الكائنات الحية التي تعيش في جماعات ومجتمعات تسعى بجدية إلى التلاحم والتعاون وسد الحاجات المشتركة.. الناس من حولنا يفعلون ذلك؛ لدرء الأخطار الداهمة وتحقيق الأهداف وبلوغ الرفاهية العامة.
وربما كنا نتعاون أيضًا للتخفيف من نزعة الأنانية والأثرة التي تصاحب -عادةً- كل عمليات الاستقلال. والحقيقة أننا إذا تأملنا في البنية العميقة للثقافات الأهلية والشعبية وجدنا أن التلاحم والتواصل وتبادل التقدير بين الناس، يشكل لها ما يشبه الهاجس، وهكذا فعلى الأرضية التي يصنعها الاستقلال والتضامن يحدث ذلك التجاذب الأبدي بين الاتفاق والاختلاف، ونحن في حاجة ماسَّة من أجل تخفيض ما نشعر به من مرارة الاختلاف، ومن أجل التمهيد للتعاذر والتعاون.. نحن في حاجة إلى فهم الأسباب الموضوعية التي تدفع بنا في اتجاه التباين.
ولعلِّي أسلِّط الضوء على بعض تلك الأسباب عبر المفردات الآتية:
1- ربما كان ما تأصل في نفوسنا من النفور من الاختلاف راجعًا إلى اعتقادنا أن الأصل في حياتنا هو الاتفاق، والاختلاف شيء مخيف؛ لأنه يضعنا على حافة الفرقة أو حافة الاقتتال، وكلاهما مكروه ومروِّع. القرآن الكريم يعلِّمنا أن الاختلاف في عددٍ من الأمور هو آية من آيات الله، أي دليل على قدرته وعظمته، حيث يقول سبحانه: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22].
والاختلاف مصدر لتنويع الفوائد وإغناء الأشكال، وفي هذا يقول سبحانه: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 69].
ويقول جل ثناؤه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} [فاطر: 27، 28].
ومن الآيات الكريمة ما يفيد أن الاختلاف شيء ملازم للإنسان، لا يستطيع الفكاك منه، وفي هذا يقول سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118، 119].
قال الحسن وعطاء وغيرهما: (ولذلك خلقهم أيْ للاختلاف).
إن الخلاف إذا أمكن إيقافه عند حدود، فإنه يصبح مصدر ثراء ونمو، ويصبح مصدرًا للإمتاع، وتوفير الخيارات والبدائل.
2- كثير من اختلاف الناس يعود إلى قصور أنظمة اللغة التي يستخدمونها، حيث نجد أن المصطلحات والتعريفات، وكل الرموز التي تشير إلى ما هو من قبيل الصفات، تدل على معانيها دلالة غائمة تسمح بالفهم المتعدد، وتسمح بالانتقاء والتحيز، فإذا قلنا: فلان خطيب مؤثر، فإنَّ هذا الوصف قادر على فتح باب عريض من الجدل، فقد يأتي من يقول لنا: إن تأثير فلان شيء غير جيد؛ لأنه يستخدم المبالغة والقصص والحكايات الغريبة.
وقد يأتي من يقول: نعم، هو يؤثِّر في سامعيه إذا تحدث في أمور الآخرة والحساب والعذاب، لكن إذا تحدث في معالجة مشكلات الناس، فإنه أقل من عادي. وقد يأتي من يقول: هو خطيب مؤثر في مستمعيه من العوام، أما المثقفون فإهم يعترضون على كثيرٍ مما يقول… إن كلمة (مؤثر) وأشباهها تدل على معناها على نحو غير حاسم، وهي تعبر عن رؤية جزئية وخاصة؛ ولهذا فإنها تثير فينا الكثير من الاختلاف.
ويبدو أن المشكلة لا تكمن في النظام اللغوي فحسب، وإنما هناك مشكلة في استعدادات العقل البشري نفسه، حيث إنه يتعامل مع كل ما هو من قبيل (الكم) بكفاءة عالية، وذلك مثل الألفاظ الدالة على الأعداد والأحجام والأشكال والمساحات، فإذا جاء ليتعامل مع الكلمات الدالة على الكيفيات والأوصاف، ارتبك ارتباكًا شديدًا.
وعلى سبيل المثال، فنحن لا نعرف بالضبط الحدود التي إذا تجاوزتها الفضائل انقلبت إلى رذائل، فقد نصف شخصًا بالكرم، ويأتي من يقول لنا: هذا ليس بكرمٍ، هذا تبذير وسفه. وقد نصف شخصًا بالشجاعة، ويأتي من يقول لنا: هذا ليس شجاعًا، وإنما هو متهور يلقي بنفسه إلى التهلكة، وهكذا.
3- كثير من خلافات الناس يدور حول ما يجري في الواقع، وحول كيفية التعامل معه، وقد صار من الواضح أن المعلومات المطلوبة لمعرفة القضايا التي تستقطب الاهتمام اليومي – هي دائمًا أكثر مما هو متوفر، كما أن الناس لا يرون في الحقيقة إلا جزءًا يسيرًا جدًّا مما يجري، وهم مضطرون من أجل تشكيل رؤية متماسكة إلى تعميم ما يرونه على ما لا يرونه، وهذا التعميم كثيرًا ما يكون خاطئًا؛ ولذلك فإن الكثيرين منا يرفضونه، ومن ذلك ينشأ اختلاف عريض.
أضف إلى هذا أننا حين نحاول فهم الواقع وتفسيره، فإننا لا نفعل ذلك بشكل مباشر، وإنما عن طريق المفاهيم التي نمتلكها حول ذلك الواقع، وعلى سبيل المثال، فإننا حين نريد تقييم مستوى التعليم في مدرسة من المدارس، وننتهي إلى أنه ممتاز أو جيد، فإن مفهومنا للسوية الممتازة والجيدة هو الذي يتحكم في نوعية الحكم الذي أصدرناه، وكم من مدرسة اختلف الناس في تقييمها بسبب اختلاف المفاهيم والمعايير التي يستخدمونها.
4- نحن متفقون على أن قدرًا من الاختلاف هو شيء سائغ وصحي، ولا بُدَّ منه، كما أننا متقفون على أن بعض الاختلاف شر، وسيئ ومدمر، لكن الشيء الذي لا يمكن أن نتفق عليه هو التفريق بين هذا وذاك، وهذا يعود إلى أن المسافة التي تفصل بينهما ذات أوساط متدرجة فلا نستطيع وضع السكين على المفصل، ولا على ما هو قريب منه؛ ولهذا كثيرًا ما نسمع من يقول عن نوع من الخلاف إنه مثمر ومثرٍ، ومن يقول عنه: إنه سيئ ومهلك.
5- لا شك أن هناك أسبابًا أخرى للاختلاف، لا تتسع هذه المساحة لاستعراضها، لكن أودُّ أن أقول: إن الدقة في استخدام المصطلحات والتعريفات -إلى جانب توفير أكبر قدر من المعلومات حول ما نبحث فيه، إضافةً إلى التجرُّد عن الأهواء والنزعات الخاصة- إن كل ذلك يخفِّف من حدة الخلاف والاختلاف.
ولا بد هنا من الإشارة إلى ثلاثة أمور:
– نحن المسلمين لدينا مرجعية عقدية وفكرية واضحة ومتينة، وعلينا أن نجاهد من أجل إبقاء اختلافاتنا داخل الأُطُر والأصول والثوابت التي تقررها تلك المرجعية.
– لا بأس أن نختلف، لكن من غير المقبول أن نفترق، وأنا ألحظ هذا في قول الله تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105].
إن الخلاف يكون صحيًّا ما دام لا يؤدي إلى الفرقة؛ لأننا نكون حينئذٍ متفقين على أصول وكُلِّيَّات توجب اجتماعنا وتلاقينا.
– دوام الحوار مهما كانت شُقَّة الخلاف واسعة؛ فالأفكار لا تنضج إلا إذا لاكتها ألسنة المناظرة، ونحن حين نتحاور نقوم بإضاءة النقاط المظلمة، ومن تلك الإضاءات تتكون الرُّؤَى المشتركة.
بقلم: د. عبدالكريم بكار