ذكرت في مقال سابق أن المرء قد يفقد توازنه، ويصير إلى حالة مزرية إذا فقد المحرَّض على التقدم والتطور. ولا تختلف المجتمعات والجماعات في هذا الشأن عن الأفراد، والحقيقة أنه حدث تقدم كبير في العصر الحديث تجاه النظرة إلى الصعوبات والتحديات، فقد كانت النظرة القديمة إلى هذه الأمور تتسم بالسلبية الشديدة، وكان الناس كثيراً ما يصابون باليأس والإحباط عند مواجهة الشدائد والمشقات. أما الآن فقد اختلف الأمر على نحو شبه جذري، وصار يُنظر إلى الأمور المعاكسة على أنها شرط أساسي لحماية الذات من الترهل والتفسخ. وقد صار كثير من إنجازاتنا مشروطاً بتوفير بيئة محفزة ومحرضة على العمل، وتلك البيئة هي التي لا يجري فيها كل شيء على ما يرام، وننال فيها ما نشتهي، وإنما البيئة التي تتحدى ولا تعجز. إن التحدي الذي نواجهه لا يشكل عقبة بمقدار ما يشكل مورداً لتصليب روح المقاومة والحث على إبداع الحلول الملائمة واستنهاض الهمم لبذل المزيد من الجهد. في الرؤية الجديدة يشكّل الرخاء – كما تشكّل القوة- تحديًّا على الناس تجب مواجهته قبل فوات الأوان.
إن بعض علماء الحضارات يُرجعون تخلف (أفريقية) إلى الرخاء الذي كانت تحظى به، حيث الأنهار الكثيرة العذبة والفاكهة التي لا تجد من يجمعها، وحيث أنواع كثيرة من الحيوانات التي يمكن صيدها بسهولة، بالإضافة إلى اعتدال الجو والذي لا يتطلب التفكير في توفير طاقة للتدفئة. إن سهولة العيش في أفريقية جعلت أهلها لا يشعرون بأي حاجة لتطوير مفاهيم وعادات وسلوكات يواجهون بها الشدائد، كما لم تدفعهم إلى توطين الصناعة والتقدم فيها، فظلت أفريقية بلداً رعويًّا وزراعيًّا بامتياز. وحين كثر الناس وتنوعت الحاجات وحلَّ الجفاف، وجدوا أنفسهم من غير حول ولا طول.
ويسوق مؤرخو الحضارات مثالاً آخر على خيانة الرخاء هو هذه المرة (إسبانيا)؛ فقد ظل هذا البلد إلى القرن الخامس عشر في طليعة البلدان الأوروبية في الفنون الصناعية، لكن عثور الإسبان على مناجم الذهب في العديد من دول أمريكا الجنوبية التي استعمروها بعد ذلك أدى إلى فتور همة القوم وشعورهم بالاستغناء عن الجدية في تطوير صناعاتهم. وهكذا انتقلت الريادة الصناعية إلى دول أوروبية أخرى، وصارت (إسبانيا) في مكان قريب من مؤخرة القافلة الأوروبية ومازالت كذلك!.
وفي العصر الحديث فقدت الدول في المعسكر الشيوعي توازنها في البداية حين ألغت شيئاً اسمه المعارضة السياسية، وحين أخذت الدولة هناك على عاتقها تهميش المجتمع ومحاولة الحلول محله، أي ابتلعت الدولة المجتمع. وكانت النتيجة العامة لذلك غياب أي تحدٍ حقيقي يدفع في اتجاه إصلاح الأخطاء ونقد الذات، مما نجم عنه تمتع الدول الاشتراكية بسلطات شبه مطلقة. والسلطة مفسِدة، والسلطة المطلقة إفساد مطلق، وقد أدى كل ذلك في نهاية المطاف إلى انهيار ذلك المعسكر واتجاه كثير من دوله في اتجاه الغرب ليكونوا أعضاء غير مميزين في حلف شمالي الأطلسي.
في مجال آخر هناك دول قليلة في العالم لا يمارس التعذيب في سجونها. ومنع التعذيب أدى إلى إخراج رجالات أمن من الطراز الرفيع حيث لم يبق ثَمَّ وسيلة لكشف الجرائم سوى البحث الدقيق والتحقيق الذكي والتحليل الممتاز للمعلومات المتوفرة .
أما الدول التي أباحت لنفسها ممارسة التعذيب، فقد حرمت نفسها من ذلك – وهذا بدهي- لأنها لا تشعر بالحاجة إليه!!.
إذا عدنا إلى تاريخنا الإسلامي وجدنا ما يشبه هذا، حيث إن مما لا يخفى أننا أخفقنا على مدى قرون في تنظيم المعارضة السياسية وإضفاء نوع من المشروعية عليها. إن من غير الصحيح أن يقول كل من لا يرتضي سياسة معينة ما شاء، وأن يفعل ما يشاء. كما أن من غير الصحيح أيضاً أن تكمم الأفواه، ويتحول الناس إلى قطيع. ولهذا فإن المعارضة السياسية كانت تفتقر – في غالب الأحيان- إلى الاتزان والوسطية. وكان بعض الناس يعبّرون عن سخطهم من خلال الثورات المسلحة التي أنهكت الأمة، وجعلت تاريخها السياسي رمادي اللون. أما الأغلبية فقد كانت ترى في تلك الثورات فتناً مدلهمة، وكان الخيار المتاح أمامها هو الصمت المطبق والخانق.
ونحن إلى يومنا هذا ننظر إلى الحركات الاحتجاجية التي قامت ضد الحكومات الإسلامية على مدار التاريخ بأنها حركات ضالة أو مغرضة أو مأجورة…، ومع أننا لا نزكي كل تلك الحركات، ولا نحكم لها بالبراءة؛ إلا أننا لم نحاول أن نتلمس الأسباب الدافعة لها ولا الدور الذي كان يمكن أن تقوم به في وجه تغوّل الدولة وتسلطها ولو قدر لتلك الحركات أن تسلك المسلك السلمي في معارضتها. كيف يكون الوضع لو كانت النظرة إلى المعارضة السياسية على أنها جزء من النظام الدستوري للدولة الإسلامية؟ لا شك أن تقدماً سياسيًّا وحضاريًّا باهراً كان يمكن الحصول عليه!.
إذا التفتنا إلى الجانب الثقافي والمعرفي والدعوي لوجدنا أن طلاب العلم الشرعي على مدار التاريخ الإسلامي كادوا ينفردون بالساحة الثقافية دون منافس يذكر، وقد أدى ذلك التفرد إلى ترهل خطاب كثير منهم بل تخلفه؛ حيث إن فقد المنافس نفى الشعور بالاحتياج إلى التطوير، كما حُرم الخطاب الدعوي من ميزة الاقتباس والمقارنة. واليوم نشعر بأن علينا أن نجري بسرعة فائقة حتى نستدرك بعض ما فات.
قد أشار القرآن الكريم إلى نعمة وجود التحدي الضد والمعوق ووجود المصارع والمنافس والعدو حين قال سبحانه: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين).
إن الله – تعالى- يدفع بالمؤمنين شرور الكافرين والفاسقين من خلال الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن خلال استخدام الإمكانات والموارد المتاحة على نحو يخدم الخير ويعزز الفضيلة. كما أن وجود الكافرين والفاسقين يشكّل محرضاً للصالحين على تحسين أحوالهم والتخلص من أخطائهم. والذي ينظر في كتب التفسير يجد أن معظم المفسرين قد حادوا عن هذا المعنى. ولهذه الآية المباركة مرمى بعيد، لم أر أحداً يشير إليه، وملخصه هو: أنه ما دامت وضعية المدافعة في الحياة تحول دون فساد الأرض؛ فإن على أمة التوحيد أن تعمل على إيجاد أوضاع تتحقق فيها المدافعة في كل دوائر الحياة وعلى كل مستوياتها: في الأسرة والمدرسة والجامعة ودوائر الحكومة والمؤسسة والشارع…، وذلك من خلال إرساء أعراف ونظم تتيح النقد الذاتي والغيري، وتسمح بالمراقبة والمحاسبة لكل من بيده سلطة عامة، كما تسمح بمقارعة الحجة بالحجة وتمحيص البحث بالبحث والفكرة بالفكرة، والنظرية بالنظرية.. في إطار ثوابت الشريعة الغراء وقطعياتها. إن هذه الوضعية هي البديل الصالح لما نعانيه من حركة بندولية ننتقل من خلالها من إفراط إلى تفريط ومن تفريط إلى إفراط بعيداً عن الوسطية والاتزان.
والله وفي التوفيق.
أ.د. عبدالكريم بكار
|