من تحت الرماد

لم يكن يخطر في بال أحد أن يصنع السوريون ثورة مكتملة الأركان، وذلك لأن القهر الذي مارسه النظام ضدهم عبر ما يقرب من نصف قرن كان فظيعاً، فاليأس من التغيير والإصلاح كان بحجم التعذيب الرهيب الذي صُبَّ على أجسادهم. الأسباب الأخلاقية والقانونية والإنسانية للقيام بتغيير جذري كانت موجودة، لكن النفوس كانت محطَّمة، كما أن الوسائل كانت شبه معدومة، لكن الله نفخ في ذلك الشعب روحاً من روحه، فإذا به ينتفض من تحت الرماد والركام ليكسر الأصنام، ويجهر باسم الله عالياً في كل مكان .

السوريون يُولدون من جديد وصرخاتهم في الشوارع مثل صرخات الوليد، تؤذن بانبعاث حياة جديدة مملوءة بالعزة والكرامة والحرية والأمل على الرغم من الثمن الباهظ الذي يدفعونه بسبب خروجهم من بيوتهم.

يؤمن كثير من السوريين اليوم أن النظام المستبد الظالم لا يؤسس لنهضة، ولا يحرر أرضاً أو يحمي عرضاً، إنه نظام يقوم على اصطياد المنافع وجمع الثروات لمن يدورن في فلكه، ويقدمون له الحماية، ومن ثم فإنهم يعتقدون أنه إذا كان آباؤهم قد ضحوا بعشرات الألوف من رجالهم من أجل تحقيق الاستقلال اليوم وطرد المستعمرين، فإن عليهم أن يكونوا مستعدين لتقديم ألوف الرجال أيضاً من أجل تحقيق الاستقلال الثاني، ويقولون : إن هذا الاستقلال أهم من الأول ، لأنه ليس تحريراً للأرض، ولكنه تحرير للوعي والعقل والروح من أَسر طويل وتشويه مديد، وإن كل المؤشرات تؤكد على أن الناس مستعدون لدفع ذلك الثمن، بل إنهم شرعوا في دفعه فعلاً، ولفتوا بقدرتهم على التضحية أنظار العالم . الثورة السورية بدأت تؤتي ثمارها في تغيير النفوس حيث نجد أن الناس يعيشون حالة من التلاحم والتعاون لم يشهدوا مثيلاً لها منذ أجيال، وهذا التلاحم يصل إلى حد تعريض بعض الناس نفوسهم للخطر من أجل أشخاص آخرين لا يعرفونهم، وهذا ما نلمسه اليوم حيث تنتفض قرية في شمال سورية لتخفف ضغط بطش رجال الأمن عن أهل قرية في جنوبها ، وتلك الانتفاضة يكون ثمنها أحياناً القتل ونهب البيوت وحرق المحاصيل …

إنني موقن بأن هذه الثورة بدأت ببناء الإنسان السوري من الداخل تمهيداً لبناء سورية الجديدة : سورية الحضارة والمجد والإباء؛ وما ذلك على الله بعزيز

د .عبد الكريم بكار

في5/7/1432