الثورة السورية: أعباء النصر

الثورة السورية هي أعظم الثورات العربية على الإطلاق على الرغم من جسامة الخسائر التي تكبدها الناس بسبب إجرام النظام وبطشه، وذلك بالنظر إلى التغيير الهائل الذي أحدثته في نفوس وعقول أعداد كبيرة من السوريين. لا ريب لدي في أن الثورة السورية باتت على مسافة قصيرة جداً من حسم الصراع وتحقيق نصر عزيز بحول الله وطوله، وقد تعلمنا من التجارب التاريخية أن للنصر أعباء وتكاليف لا تقل عن أعباء المعركة التي تسبقه، وإن كان ما هو مطلوب مختلفاً بعض الشيء .

إن أعباء النصر في سورية تتمثل في إدارة المعطيات التي ستنجم عن سقوط النظام وتمكن القوى الثورية من السلطة، ومن تلك الأعباء الحفاظ على الأمن ومنع الاقتتال الطائفي وإطلاق الاقتصاد وهندسة الحراك السياسي وأمور من هذا القبيل ..وهذا بعض التفصيل في هذه المسألة المهمة :

1- شعب تعوَّد الحياة في ظل الاستبداد والقهر نصف قرن بالتمام والكمال لا بد أن يرتبك ويربك المسؤولين عنه حين يعيش في أجواء الحرية وحفظ الكرامة، ولهذا فإن المتوقع انطلاق موجة من الاحتجاجات على الأجور والغلاء وضعف الخدمات، وموجة كبرى من الاحتجاجات من قبل الذين فقدوا بيوتهم ومن قبل الجرحى والذين فقدوا مصادر رزقهم وغيرهم …هذه الاحتجاجات ستزيد الوضع العام ارتباكاً، وتزيد الاقتصاد ضعفاً . إن الناس لا يعرفون أن الحكومة الانتقالية التي تولت أمور البلاد هي حكومة شبه مفلسة، ومع ذلك فإن عليها إدارة بلاد تهدم جزء كبير منها !

هذا يعني أن علينا من الآن وضع خطط لإعادة الاعمار، والبحث عن مصادر للتمويل والاستثماربالإضافة إلى العمل على إيجاد اتحاد للمؤسسات الطبية السورية المهتمة بعلاج الجرحى، وهي اليوم تقترب من العشرين المنظمة .

2- بعد سقوط النظام وإلى أن يستقر البلد سيكون هناك اضطراب في الأمن بسبب الأزمات المعيشية وضعف الأجهزة المسؤولة عن ضبط الأمن وانتشار السلاح، وهذا خطير جداً حيث إن حركة إعادة الإعمار وتدفق الاستثمارات الأجنبية والمساعدات الإنسانية مرتبطة على نحو جذري بأمن البلاد وسلامة الوافدين إليها، ولهذا فلا بد من أن تتحول كل كتائب الجيش الحر إلى حراس للممتلكات العامة وحماية الناس وتأمين حركتهم اليومية، وهذا يحتاج إلى تخطيط وتنظيم و تدريب من هذه اللحظة .

3- الثورة الذكية هي التي تؤجل كل الخلافات إلى ما بعد نجاحها، وأول نجاحاتها الكبرى يتمثل في سقوط النظام، وحين يبدأ بناء الدولة فإن كل المشاركين في الثورة ـ وغيرهم مثلهم ـ سيحاولون أن تكون الدولة الجديدة وفق معتقداتهم ومرئياتهم الحضارية والسياسية، وهذا شيء طبيعي، لكن في البلد تنويعات عرقية ومذهبية وقومية كثيرة جداً، كما أن بين حملة السلاح من يعتقد بأن سلاحهم يحمي أفكارهم وأنهم لم يبذلوا دماءهم من أجل إقامة دولة ديموقراطية أو من أجل تمهيد الطريق أمام الليبراليين والعلمانيين … ليكونوا في حكومة تحكم مجتمعاً مسلماً، وهناك اليوم من يدعو على نحو واضح لقيام خلافة إسلامية في سورية، وإلى جانب هؤلاء هناك من يريد إقامة دولة علمانية بحتة، ومن يريد إقامة دولة مدنية أو دولة مدنية بمرجعية إسلامية … إن هذه الخلافات والاتجاهات المتباينة في شكل الدولة المرتقبة موجودة وملموسة، وفي اعتقادي أن أسوأ ما يمكن أن يحدث في مثل هذه الحالة هو الاحتكام إلى السلاح في فرض أحد الخيارات أو الاستقواء بالأجنبي واستخدام المال السياسي من أجل تكريس اتجاه من الاتجاهات .

إن بداية التغيير تكون في إجراء انتخابات حرة ونزيهة لا يتهم فيها أحد أحداً بالتزوير، وبعد ذلك يمكن حل الكثير من المشكلات.

إن من المهم في هذا السياق إجراء حوار موسًع بين الأطياف الإسلامية المختلفة من أجل بلورة رؤية سياسية موحدة ولو على مستوى الخطوط العريضة، كما أن من المهم أن يدرك الجميع أن الشورى تشكل جوهر الحكم الإسلامي، كما أن الشعب هو مصدر السلطة، وأعتقد أن هذا موضع اتفاق حيث لا كهنوت في الإسلام، إن في إمكان كبار العلماء والسياسيين والمفكرين التحاور حول شكل الحكم الذي يصلح للناس في سورية في المرحلة القادمة حيث يخيم الكثير من التعقيد والاشتباك على كثير من القضايا .

الناس يحملون أعباء النصر وهم مسرورون لأنهم يشعرون أنهم يعملون وهم أحرار كرام ومواطنون من الدرجة الأولى .